الآنسة: خنساء عثمان
في خضم الأحداث عندما يرى المؤمن انتفاش الباطل وتطوره الكبير في حرب الإسلام واستخدام الأساليب الناعمة والخشنة واللعب على جميع الحبال في إبعاد منهج الله، يقف حائرًا مرتاعًا أمام قدرة المنافقين على تطويع الدين لخدمة دنياهم وإيذاء الصادقين العاملين المجاهدين ومطاردتهم حتى إنه ليكاد يفتن في دينه.
ولكن هل يتركه الله؟ أبدًا..
إن آيات الله تثبته وتسليه وتربط على قلبه بفضل من الله، وإن قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197-196] هي القول الفصل فيمن غرته الدنيا.
لتعطي متاع الدنيا وزنه الصحيح وقيمته الحقيقية حتى لا يكون فتنة لأصحابه، ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين الذين يعانون ما يعانون من أذى وإخراج من الديار وقتل وأسر وشظف وحرمان وأذى وجهد ومطاردة ومشقة وأهوال بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون!
وكي لا تُفتن الجماهير الغافلة وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء والباطل وأهله في منجاة فتأتي الحقيقة.. إنه متاع قليل.. ينتهي ويذهب.
أما المأوى الدائم الخالد فهو جهنم وبئس المهاد! بئس المهاد لمن باع دينه بدنياه، بل وبمن هو أسوأ من ذلك من باع دينه بدنيا غيره.
وقصة الرجال بن عنفوة خير شاهد في هذا المقام فهل من معتبر؟
فقد جاء عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مر عليه يومًا وهو جالس في رهط (جماعة) من القوم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِيكُمْ لَرَجُلًا ضَرْسُهُ فِي النَّارِ أَعْظَمُ مِنْ أُحُد هذا الرَّجَّال بن عنفوة» وكان من الذين وفدوا على رسول الله في وفد بني حنيفة، وكانوا بضعة عشر رجلًا فأسلموا، فلزم الرَّجَّالُ بن عنفوة النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه، وحفظ القرآن والأحكام، وجدّ في العبادة.
فلما ظهر مُسيلمة الكذاب في اليمامة وادّعى النبوة واتّــبعه خلقٌ من أهل اليمامة!؛ فبعث أبو بكر الصديق “الرَّجَّال بن عنفوة لأهل اليمامة يدعوهم إلى الله، ويثبّـــتهم على الإسلام، فلما وصل “الرَّجَّال” اليمامة التقاه مسيلمة الكذاب، وأكرمه، وأغراه بالمال والذهب، وعرض عليه نصف مُلكه إذا خرج إلى الناس وقال لهم إنه سمع محمداً يقول: “إن مسيلمة شريك له في النبوة”.
ولما رأى “الرَّجَّال” ما فيه مسيلمة من النعيم – وكان من فقراء العرب – ضعُـــف ونسي إيمانه وصلاته وصيامه وزهده، وخرج إلى الناس الذين كانوا يعرفون أنه من رفقاء النبي صلى الله عليه وسلم، فشهد أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: “إنه قد أشرك معه مُسيلمة بن حبيب في الأمر”، فكانت فتنة “الرَّجَّال” أشد من فتنة مسيلمة الكذاب، وضل خلقٌ كثير بسببه، واتّـــبعوا مُسيلمة، حتى تعدى جيشه أربعين ألفا.
ثم قتل في معركة اليمامة فخسر الدنيا والآخرة، فحذار حذار من غرور الدنيا فتزل قدمٌ بعد ثبوتها، كما نرى نماذج مكررة اليوم، فالأمر خطير بل ومرعب من سوء الختام في سبيل المتاع القليل الذاهب.
فالصبر الصبر.. فهو زاد الطريق في هذه الدعوة.. الطريق الشاق الحافل بالعقبات.. لكن نهايته خلود وتكريم من الله.. {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ}[آل عمران:198] فهل يبيع عاقل هذا بذاك! فأين ذهبت العقول؟؟ يا حسرة على العباد.. فالثبات الثبات..
فالنصر لا يأتي إلا بعد التربية الربانية وبعد إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي الذي لا يعد المؤمنين بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض، ولا يعدهم شيئًا من الأشياء في هذه الحياة.
لكن كتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه حتى إذا تجردوا لله من كل رغبة حتى لو كانت الغلبة على الأعداء وتخلصت قلوبهم من أن تكون لها شهوة ولو كانت لا تخصها وعرفوا أن هذه العقيدة عطاء ووفاء فقط وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر ومن غلبة تمكين واستعلاء ثم انتظار كل شيء هناك عند الله في الآخرة يقع النصر ويقع الاستعلاء ويقع التمكين.
ولكن هذا ليس داخلا في البيعة فالبيعة يجب أن تكون على الجنة “لا نقيل ولا نستقيل” كما قال الأنصار، وللعلم أن ما أجراه الله على يدهم بعد ذلك ومنحهم إياه فذلك كله خارج عن الصفقة.
هكذا ربّى الله الجماعة التي قَدّر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها وكل رغباتها وكل شهواتها حتى ما يخص منها بالدعوة التي تحملها والعقيدة التي تموت من أجلها فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة كما قال صاحب الظلال رحمه الله.
فالله الله في هذا الطريق والثبات الثبات في عصر الفتن والله الموفق، فقد قال وهو عز من قائل في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29].
فاللهم اجعل لنا فرقانًا واستعملنا ولا تستبدلنا وارزقنا برد اليقين فيما عندك ندعوك فاستجب لنا في هذه الساعة المباركة من رمضان يا الله، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وأخيرًا؛ وليس آخرًا جعلنا الله وإياكم من عتقاء هذا الشهر المبارك.