وقفات مع قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛

أكرمنا المولى جل وعلا بتحرير جزء من البلاد في سوريا وازدادت الحاجة إلى أعداد جديدة من الموظفين في سلك الأمن والشرطة وبعض الدوائر الحكومية خاصة الأماكن الحساسة حيث سارع عدد من المجاهدين والملتزمين وأبناء الثورة المباركة إلى تقديم أنفسهم للتوظيف واستلام وظائف متعددة منها الحساسة والنوعية والدعوية ومنها العادية التي لا تحتاج إلى جهد أو كفاءة أو شهادة.

لذا من الواجب التذكير بالله عز وجل والواجب المناط بإخواننا الموظفين الجدد في الحكومة وما يترتب عليهم في واقعهم الجديد الذي يفرض عليهم التعايش مع واقعٍ لم يألفوه وغريب عنهم لديه التزامات وقوانين تخالف أو تعارض ما تربوا عليه خلال سني الثورة والجهاد.

وفي هذا المقام أحببت أن أذكر قصة نبي الله يوسف عليه السلام ودخوله في حكومة عزيز مصر ليكون الأمين على خزائن مصر وطريقة عمله وكيف أنه عمل بشرع الله فيما مكنه الله لا بحكم عزيز مصر، وهل هناك فوائد من الدخول في الحكومة واستلام الوظائف وأي الوظائف تنفع الأمة ويمكن من خلالها الإصلاح والتغيير والوظائف التي تكون فيها مجرد رقم وموظف لا تغني ولا تنفع ولا تجري أي تغيير يذكر.

قال الله تعالى على لسان نبيه يوسف الصديق عليه السلام لعزيز مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، يقول القرطبي في تفسير لهذه الآية “فيه أربع مسائل:

الأولى:

قال سعيد بن منصور: سمعت مالك بن أنس يقول: مصر خزانة الأرض؛ أما سمعت إلى قوله: اجعلني على خزائن الأرض أي على حفظها، فحذف المضاف. إني حفيظ لما وليت عليم بأمره. وفي التفسير: إني حاسب كاتب؛ وأنه أول من كتب في القراطيس. وقيل: حفيظ لتقدير الأقوات عليم بسني المجاعات.

الثانية:

قال بعض أهل العلم: في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، والسلطان الكافر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء؛ وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك. وقال قوم: إن هذا كان ليوسف خاصة، وهذا اليوم غير جائز؛ والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه. والله أعلم. قال الماوردي: فإن كان المولي ظالما فقد اختلف الناس في جواز الولاية من قبله على قولين: أحدهما – جوازها إذا عمل بالحق فيما تقلده؛ لأن يوسف ولي من قبل فرعون، ولأن الاعتبار في حقه بفعله لا بفعل غيره. الثاني: أنه لا يجوز ذلك؛ لما فيه من تولي الظالمين بالمعونة لهم، وتزكيتهم بتقلد أعمالهم؛ فأجاب من ذهب إلى هذا المذهب عن ولاية يوسف من قبل فرعون بجوابين: أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحا، وإنما الطاغي فرعون موسى. الثاني: أنه نظر في أملاكه دون أعماله، فزالت عنه التبعة فيه. قال الماوردي: والأصح من إطلاق هذين القولين أن يفصل ما يتولاه من جهة الظالم على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يجوز لأهله فعله من غير اجتهاد في تنفيذه كالصدقات والزكوات، فيجوز توليه من جهة الظالم، لأن النص على مستحقه قد أغنى عن الاجتهاد فيه، وجواز تفرد أربابه به قد أغنى عن التقليد. والقسم الثاني: ما لا يجوز أن يتفردوا به ويلزم الاجتهاد في مصرفه كأموال الفيء، فلا يجوز توليه من جهة الظالم; لأنه يتصرف بغير حق، ويجتهد فيما لا يستحق. والقسم الثالث: ما يجوز أن يتولاه لأهله، وللاجتهاد فيه مدخل كالقضايا والأحكام، فعقد التقليد محلول، فإن كان النظر تنفيذا للحكم بين متراضيين، وتوسطا بين مجبورين جاز، وإن كان إلزام إجبار لم يجز.

الثالثة:

ودلت الآية أيضا على جواز أن يخطب الإنسان عملا يكون له أهلا؛ فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى : أقبلت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ، فكلاهما سأل العمل ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يستاك، فقال: ما تقول يا أبا موسى – أو يا عبد الله بن قيس. قال قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، قال: وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت، فقال: لن – أو – لا نستعمل على عملنا من أراده وذكر الحديث؛ خرجه مسلم أيضا وغيره؛ فالجواب: أولا: أن يوسف – عليه السلام – إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم فرأى أن ذلك فرض متعين عليه فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك، كما قال يوسف -عليه السلام-: فأما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك فالأولى ألا يطلب; لقوله – عليه السلام – لعبد الرحمن: لا تسأل الإمارة وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليلا على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك; وهذا معنى قوله -عليه السلام-: (وكل إليها ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها، وهو معنى قوله: أعين عليها. الثاني: أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: إني حفيظ عليم فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال. الثالث: إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم. الرابع: أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه; لأنه لم يكن هنالك غيره، وهو الأظهر، والله أعلم.

الرابعة:

ودلت الآية أيضا على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل; قال الماوردي: وليس هذا على الإطلاق في عموم الصفات، ولكنه مخصوص فيما اقترن بوصله، أو تعلق بظاهر من مكسب، وممنوع منه فيما سواه، لما فيه من تزكية ومراءاة، ولو ميزه الفاضل عنه لكان أليق بفضله؛ فإن يوسف دعته الضرورة إليه لما سبق من حاله، ولما يرجو من الظفر بأهله”.

الحكم والتمكين شرطان مهمان لمن يلتبس عليه النفع والضرر والمصلحة والمفسدة في الدخول في مؤسسات الدولة من عدمه، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف:56]، وقال: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] وهنا ليوسف أن يفعل في وظيفته ما يراه حقًا ودينًا وخادمًا لأمته والأنفع لمصالح الناس حقيقةً لا ما يمليه القانون الوضعي للدولة، فلا تسري عليه قوانين الدولة إن كانت مخالفةً للشرع في عمله وما يأمره وينهاه.

لذا كل عملٍ أو وظيفةٍ ولو كان في حكومة ولو كانت لا تحكم شرع الله لكن العمل والوظيفة فيها منعزلٌ عن القانون ولا يتدخل القانون فيها فيجوز العمل بها، ومن ذلك الوظائف الخدمية والحملات الدعوية والصلاة بالناس والخطابة وتنظيف الطرقات وحراسة الناس والرباط على أمنهم وأمانهم ومنع السُّراق من أموالهم والوقوف على الحدود والثغور أمام الأعداء، جاء في تفسير الطبري قوله: “واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} فقال بعضهم: ما كان ليأخذ أخاه في سلطان الملك، وعن ابن عباس قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، يقول: في سلطان الملك، وعن الضحاك يقول في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، أي: في سلطان الملك، وقال آخرون: معنى ذلك: في حكمه وقضائه”.

وهنا وقفات:

1_ يجب الانتباه إلى أن الشريعة إن كانت لا تُحكم في أي حكومة فمهما بلغ عدد الموظفين والعاملين في المديريات والأمن والشرطة من أهل الإسلام والذين يحملون فكر الإصلاح والتغيير وحب الدين إلا أنهم لا يملكون تحليل الحلال أو تحريم الحرام أو تخفيف الكفر والضرر أو مخالفة المسؤولين في حال خالف القانون الشرع، فهؤلاء يبحثون عن النفع والمصلحة الشخصية لا العامة لأنهم تحت القانون الوضعي وهذا القانون لا يستمد جميع أحكامه من القرآن والسنة وهم لا يملكون أي تغيير أو إصلاح فيه.

يقول الشيخ العلوان فرج الله عنه: “رأيت خلقاً من المحسوبين على العلم يبحثون عن المناصب والرياسات تحت مسمى مزاحمة الأشرار والإصلاح، ونالوا مبتغاهم؛ فكانوا أفسد للدين ممن زاحموهم وأقل نفعاً للمؤمنين، فكان هذا دليلاً على كذبهم وأنهم إنما يريدون مصالحهم لا مصلحة الدين”.

2_ ينبغي للعاملين في أي حكومة من مؤسسات الجيش أو الشرطة أو الأمن أو المؤسسات أن ينتبهوا أن يكون عملهم في مصلحة الإسلام والمسلمين ولا يعود بالضرر عليهم وأن ما يقومون به من عمل هو خدمةٌ يقدمونها للناس للتخفيف عنهم ومساعدتهم في تقوية الحلال وإضعاف الحرام.

3_ يجب على كل موظف أو عامل في الحكومة فضلًا عن أي مسلم في كل مكان أن يكون له شيخ مُمَكَّنٌ أو طالبُ علمٍ شرعيٌّ يدله على مواطن الحلال من الحرام ويعرفه الشبهات حتى لا يقع في المحظور.

وقد كان المسلمون قديمًا يقعون في الحرام عن طريق الشبهات، أما اليوم فيقعون في الحرام الواضح الصريح نسأل الله العافية والسلامة، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى ، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ» صحيح البخاري.

وإلا فإن قولنا لهم بالدخول ضمن الحكومات والمؤسسات دون الالتزام بالشرع وإصلاح الدين والقلب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسهم في ضياعهم وذوبانهم وربما وقوعهم في محظورات وعدم قدرتهم على تغيير شيء.

4_ الحذر من التغيير الخفي فحين تعمل في مؤسسة أنت تابعٌ لها لا متبوع عليك الالتزام بقوانينها ونهجها وطريقة عملها ودوامها، فلربما مع الوقت اضطررت لتخفيف لحيتك أو اضطرك الدوام لتأخير الصلاة ثم تأخيرها أكثر ولربما نسيانها أو الانشغال عن الجماعة، أو الاختلاط مع الإناث ثم التكلم بحكم ضرورة العمل ثم التمادي في الكلام ثم المزاح ثم التلاطف ثم الألفة ثم المحبة إلى الوقوع في الحرام، وكما يقول الشاعر:

نَظرَةٌ فَابتِسامَةٌ فَسَلامٌ *** فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ

وكذلك اختلاط الرجال الملتزمين بغير الملتزمين فتجالس بذيء اللسان والفاحش والمتهاون في النظر والمتعامل بالرشوة والكاذب والنمام والفساد والمدخن، فإن لم تكن ذا مبدأ قوي وعزيمة راسخة ستصبح مع مرور الوقت شبيهًا بمن تجالس مقلدًا له تأخذ منه.

وحال أغلب الملتزمين بدينهم في المؤسسات الحكومية يشعرون بضيقٍ شديدٍ وكربٍ عظيمٍ لما يرون من غربة الدين وقلة النصير وانشغال الناس بالدنيا وفي غير طاعة الله..

خاصةً في الشام بعد توقف المعارك وانفضاض نقاط الرباط في نحور الأعداء ومخالطة أناس ألفوا عيش النظام وطريق العبودية وتفرق المجاهدين بين المدن والقرى بسبب العمل ضمن الوظائف الجديدة للحكومة وتباعد الأصحاب والاختلاط ببيئةٍ ليست بيئتهم لم يعتادوا عليها أو يألفوها.. فتراهم حزينين مغمومين ولسان حالهم كما قال الشاعر:

مالي أرى الشمع يبكي في مواقده *** من حرقـة النار أم من فرقة العسلِ؟

من لم تجانسْه فاحذر أنْ تجالسَه *** ما ضرّ بالشـمع إلا صحبة الفتـلِ

5_ الحلال حلال والحرام حرام والقانون لا يحرم الحلال ولا يحل الحرام بل قد يقر، فانتبه لأي عمل تؤمر به أو تؤديه، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال لحذيفة: أوصني! قال: «إنَّ الضَّلالة حَقّ الضَّلالة أن تعرف ما كنتَ تُنكر وأن تٌنكر ما كنتَ تعرف، وإيّاك والتَّلون في دين الله تعالى، فإنَّ دينَ اللهِ واحد».

6_ راجع نفسك وجدد عهدك مع الله ولا تنس أنك خرجت في سبيل الله ولأجل ذلك جاهدت وهاجرت ونزحت وتشردت وتوظفت وأنك خادم للمسلمين لا للقانون الوضعي المخالف للكتاب والسنة.

اللهم حكم فينا شرعك وفرج عن المسلمين في كل مكان واجعلنا خدامًا لدينك وعبادك في إقامة دولة العدل والقسط والأمن، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

Exit mobile version