الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فقد أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)، قال الترمذي: حسن صحيح، وفي رواية لجابر رضي الله عنه: (ما ذئبان ضاريان باتا في غنم غاب رعاؤها بأفسد للناس من حب الشرف والمال لدين المؤمن)، وللإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله رسالة قيمة في شرح هذا الحديث ومعالجة هذه القضية الخطيرة التي لا يخلو منها زمان ويغيب عن كثير من الناس أصلها فما بالك بدقائقها، ولذلك أحببت أن أقف معها هذه الوقفات التي أسأل الله أن ينفع بها، فأقول وبالله التوفيق:
الوقفة الأولى – خطورة الحرص على المال والجاه:
يوضح ابن رجب رحمه الله خطورة هذا الأمر على دين المرء فيقول: «فهذا مثل عظيم جدًا ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا..، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن هذا الإفساد في الدين ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر، وهذا يشير إلى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال والشرف في الدنيا إلا القليل، كما أنه لا يسلم من الغَنم مع إفساد الذئبين المذكورين فيها إلا القليل، فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف في الدنيا».
الوقفة الثانية – أنواع الحرص على المال:
بين ابن رجب رحمه الله أن الحرص على المال على نوعين:
1 – شدة محبة المال مع شدة طلبه والجد في تحصيله من وجوهه “المباحة” مع الجهد والمشقة، وفي هذا النوع يقول ابن رجب رحمه الله: «لو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي لا قيمة له، وقد كان يمكن لصاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم، ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه، فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذما للحرص»، ثم نُقل عن السلف ما يتعلق بهذا النوع من نقولات عديدة، منها:
– قول ابن مسعود رضي الله عنه: «اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، فإن الله بقسطه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط».
– قول عبد الواحد بن زيد رحمه الله: «الحرص حرصان؛ حرص فاجع، وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، فالحرص على الدنيا معذب صاحبه مشغول لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته لالتفاته لما يفنى وغفلته عما يدوم ويبقى».
– قول المأمون: «الحرص مفسدة للدين والمروءة».
2 – شدة محبة المال مع شدة طلبه والجد في تحصيله من الوجوه “المباحة والمحرمة”، ومنع الحقوق الواجبة: وهذا كما يبين ابن رجب رحمه الله من الشح المذموم، قال تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)، فالشح كما قال طائفة من العلماء: هو الحرص الشديد الذي يحمل صاحبه على أن يأخذ الأشياء من غير حلها ويمنعها حقوقها، وحقيقته أن تتشوف النفس إلى ما حرم الله ومنع منه، وأن لا يقنع الإنسان بما أحله الله له من مال أو فرج أو غيرهما…، وهو مناف للإيمان، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشح يأمر بالقطيعة والفجور والبخل، ثم بين ابن رجب رحمه الله الفرق بين البخل والشح فقال: «البخل هو إمساك الإنسان ما في يده، والشح تناول ما ليس له ظلما وعدوانا من مال أو غيره، حتى قيل: إنه رأس المعاصي كلها، وبهذا فسر ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف الشح والبخل»، ويختم ابن رجب رحمه الله الكلام على هذا النوع بالقول: «ومتى وصل الحرص على المال إلى هذه الدرجة نقص بذلك الدين والإيمان نقصا بينًا، فإن منع الواجبات وتناول المحرمات ينقص بهما الدين والإيمان بلا ريب حتى لا يبقى منه إلا القليل».
الوقفة الثالثة – الحرص على الجاه وأقسامه:
– يوضح ابن رجب رحمه الله خطورة هذا الحرص فيقول: «حرص المرء على الشرف أشد هلاكًا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض، أضر على العبد من طلب المال وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف».
– ثم يبين أنه قسمان:
1 – طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال:
– وفي خطورة هذا النوع يقول ابن رجب: «وهو خطر جدًا، وغالبًا يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))، وقَل من يحرص عليه فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة)».
– ثم يبين ابن رجب ضرر هذا النوع فيقول: «الحرص على الشرف يستلزم ضررا عظيما قبل وقوعه في السعي في أسبابه، وبعد وقوعه بالحرص العظيم الذي يقع فيه صاحب الولاية من الظلم والتكبر وغير ذلك من المفاسد».
– وبعد ذلك يذكر ابن رجب بعض الصور العملية الخطيرة في هذا النوع فيقول: «حب الشرف بالحرص على نفوذ الأمر والنهي وتدبير أمر الناس، إذا قصد بذلك مجرد علو المنزلة على الخلق والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس، وافتقارهم إليه، وذلهم له في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه “مزاحمة لربوبية الله وإلهيته”، وربما تسبب بعض هؤلاء إلى إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجتهم إليه، وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له…، فهذه الأمور أصعب وأخطر من مجرد الظلم، وأدهى وأمر من الشرك، والشرك أعظم الظلم عند الله، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته)، ومن هذا الباب أيضًا أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله ويثنى عليه بها، ويطلب من الناس ذلك ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وربما أظهر أمرا حسنًا في الظاهر، وأحب المدح عليه، وقصد به في الباطن شرا، وفرح بتمويه ذلك وترويجه على الخلق، وهذا يدخل في قوله تعالى: ((لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ))، وهذا الوصف -طلب المدح من الخلق ومحبته والعقوبة على تركه- لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له».
2 – طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية كالعلم والعمل والزهد:
– يبين ابن رجب رحمه الله أن هذا القسم «أفحش من الأول وأقبح وأشد فسادا وخطرًا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم والقرب منه والزلفى إليه».
– ثم يوضح أنه إذا طلب بالعلم والعمل والزهد عرض الدنيا الفاني فهو نوعان:
أ – أن يطلب به المال: فهذا نوع من الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة، وفي هذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علمًا مما يبغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا في الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة).
ب – الرئاسة على الخلق وأن ينقاد الخلق ويخضعون له، ويصرفون وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم ونحو ذلك، فهذا موعده النار؛ لأن قصد التكبر على الخلق محرم في ذاته، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليماري به السفهاء وليجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار).
– ثم يبين أن من هذا الباب «كراهة الدخول على الملوك..، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى الشرف والرئاسات فيها..، ومن أعظم ما يخشى على من دخل على الملوك الظلمة أن يصدقهم في كذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم، فإن من يريد بدخوله عليهم الشرف والرياسة لا يقدم على الإنكار عليهم، بل ربما حسن لهم بعض أفعالهم القبيحة تقربا إليهم ليحسن موقفه عندهم، ويساعدوه على غرضه..، وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا، ومنهم عمر بن عبد العزيز وابن المبارك والثوري وغيرهم من الأئمة، قال ابن المبارك: ليس الآمر الناهي عندنا من دخل عليهم فأمرهم ونهاهم إنما الآمر الناهي من اعتزلهم».
– ومن هذا الباب أيضًا «كراهة أن يشهر الإنسان نفسه بالعلم والزهد والدين، أو بإظهار الأعمال والأقوال والكرامات ليزار وتلتمس بركته ودعاؤه وتقبل يده، وهو محب لذلك ويقيم عليه ويفرح به، ويسعى في أسبابه..، وهذا باب واسع، وهاهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء».
الوقفة الرابعة – سبب الحرص على المال والجاه وعلاجه:
أ- السبب:
1 – حب الدنيا واتباع الهوى: يوضح ابن رجب رحمه الله «أن أصل محبة المال والشرف حب الدنيا، وأصل حب الدنيا اتباع الهوى، قال وهب ابن المنبه: من اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة فيها حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف استحلال المحارم، قال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))، وقد وصف الله تعالى أهل النار بالمال والسلطان في مواضع من كتابه، فقال تعالى: ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ))».
2 – الكبر والحسد: فالنفس كما يقول ابن رجب تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه..، فهذا هو العلو الثاني الذي يذم وهو العتو والتكبر في الأرض بغير الحق.
ب- العلاج: وخلاصته كما يبين ابن رجب رحمه الله في:
1 – التقوى: يقول تعالى: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)).
2 – الحرص على العلو الأول الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، وهذا حرص محمود يقول تعالى: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ))، قال الحسن: «إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة»، وقال وهيب بن الورد: «إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل».
3 – الزهد في العلو الثاني المذموم الذي فيه غضب الله وسخطه، والمتمثل في العتو والتكبر في الأرض بغير الحق، ولهذا الزهد أسباب عديدة منها:
– نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة.
– نظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمتكبرين ومن ينازع الله رداء الكبرياء.
– نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة وفي الآخرة، فإن من تواضع لله رفعه.
– ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف، مما يعجله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى، وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحًا من ذكر وأنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرئاسات والحرص على الشرف، ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية، قال الله تعالى: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)) وقال: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا))، وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: (أنا العزيز فمن أراد العزة فليطع العزيز، ومن أراد عز الدنيا والآخرة وشرفهما فعليه بالتقوى).
ويختم ابن رجب رسالته بالقول: «وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل به شرف الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه، وطلب شرف الدنيا لا يجامع شرف الآخرة ولا يجتمع معه، والسعيد من آثر الباقي على الفاني».
والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٣ رجب ١٤٤٣ هـ