الأستاذ أبو يحيى الشامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
في سياق الحديثِ عن واقعِ الأمةِ بين المنظورِ والمأمولِ، أذكرُ مشكلةً من المشاكل الإنسانية التي تأثرت بها أمتنا، وهي مشكلة المسمياتِ الكثيرة التي مزقت جسدها ولا تستند إلى خلافٍ، وفي كثير من الأحيان والأمثلة ليس بسبب اختلاف، لكنها حظوظُ الأنفسِ، حاديها الهوى والوهمُ، وعصبيتها لأسماءٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ، إنما جُعلت لغايةِ التعارف أو التمايز الذي تتوزَّع به الحقوق والمسؤوليات، لا الامتيازات والولاءات، فجعلوها فرحاً بالعَرَضِ الخاصِّ الماثلِ، وغفلةً عن الغَرَضِ العامِّ الشَّاملِ، {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون : 53].
في ما مضى من عمر هذه الدنيا ظهر واندثر الكثير من الأمم والحضارات والدول والجماعات، وكان لأسمائها الحضور والبهرج، الذي فتن الكثير من الناس واجتالهم عن وسيلةِ العمل الصالح، وغاية رضا الله والجنة، وأعطيت هذه الأسماء أكثر من دورها وقيمتها حتى أصبحت وسيلةً وغايةً معاً، وربما صنماً رمزياً يعبد من دون الله عز وجل، يعقد عليها الولاء والبراء، ويكون العمل في سبيلها، والحياة والممات أيضاً، وإن هذا حضرَ ويحضرُ في أمثلةٍ قديمةٍ وحديثةٍ، قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [النجم : 23]، وليس كل الأوثانِ من الحجر، وليس كل الطواغيتِ من البشر.
وفي حاضرِ أمتنا -خاصة ما استجد من أمرها بعد سقوط الخلافة- الكثير من الأسماء والمُسمياتِ التي ساهمت في محاولاتِ استعادة مكانة الأمة والعمل بدستورها، لكن تضخمت رمزيَّةُ هذه الأسماء لدى الأحزابِ والتنظيماتِ والجماعاتِ، حتى أصبح الاسم لا يتناسب مع المسمى ولا يقرِّبُ من الأمة، وكلٌّ يدعي أنه الأقدم أو الأقدر على القيام بدور الرِّيادةِ والقيادةِ والأمةِ له تَبَعٌ، وهو في وادٍ والأمة في واد.
قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج : 78]، أكثرُ المفسرين على أن الله عز وجل هو الذي سمانا المسلمين، وقلةٌ ذهبوا إلى أن الذي سمانا المسلمين هو أبونا إبراهيم عليه السلام، وإن كان القول الأول أرجح، إلا أن المؤدى المقصود واحدٌ، هو الاعتصام بالله وأن تكون الأمة واحدةً لا تفرِّقها الأسماءُ والمسمياتُ الجزئية.
إن الحالَ الذي عشناه في العقدين الماضيين ضجَّ بنتائجِ تيهٍ متعدِّدِ الأوجهِ كثيرِ الأبعادِ، يتطلب الخروجُ منه عكسَ هذه النتائجِ التي منها: (في كلِّ يوم فِرقةٌ عن فُرقةٍ … ضاقت بها الأوصافُ والأسماءُ)، فلا يكاد يمرُّ يومٌ إلا وشظايا جديدةٌ تظهرُ ويُطلق عليها أسماءُ جديدةٌ، حتى شحَّ قاموس الأسماء وظهرت غرائبه، وإن كانت للتعريف والتعارفِ فلا بأس لكنها للانتسابِ والتَّعصبِ، وهذا المحظور الذي يأتي بالتنازعِ والفشل.
من الأمثلة على التعصبِ للأسماءِ الجزئيةِ، أن المنتسبين لتنظيمٍ ملاحقٍ يغيرُ أحدهم اسمهُ وكُنيتَهُ مراتٍ كثيرةٍ من باب الحذر والأخذ بالأسباب لكنه لا يغير اسم التنظيم، لا لقدسيةِ الاسم وحرمة تغييره شرعاً، بل لإشباع رغبةٍ نفسيةٍ في التغني بإرثِ التنظيم، الذي إن كان صالحاً فإرثه للإسلام لا للتنظيم خاصةً، والفضلُ لله، وإن كان فاسداً فالإسلام بريءٌ من الفساد، ومن الأمثلة أن أحدَ المنتسبين لحزبٍ سياسيٍّ يغير اسمَهُ إذا حصلَ على جنسيةِ دولةٍ غربيةٍ، لكنه لا يقبل بتغيير اسم حزبه لذاتِ الأسباب المذكورة أعلاه، وأكثر.
ويحاولون بشتى الوسائلِ والسُّبُلِ إبرازَ هذه الأسماء، وإظهارَ وجودها للتغني بها، وقد يجاوزون ذلك إلى المنِّ بأفعالها، والاستكثارِ من الحمدِ والتَّشَبُّع، إذ لا تقتصر هذه المخالفاتُ على الأفراد لأنفسهم، بل في الغالب تكون في التجمعات التي تَنتَظِمُ على ذلك وتجعله منهجاً مُبرَّراً أو غير مبرَّر، والفارق أن الفرد يشعر بالإيثارِ والإخلاص والتضحية وسُمُوِّ الهدف عندما يتركُ اسمه ويرفع اسم جماعته وحزبه، لكنه تسويلٌ خادعٌ يدخله في باب فتنةٍ أكبر، هي من نوع البدعِ يصعبُ التغلُّبُ عليها.
حتى إذا اندثرَ المُسَمَّى أو شارف على الاندثارِ يبقى التَّغنِّي بالاسم من قِبلِ الأتباعِ والمنتسبين، وإن لم يكونوا وُلدوا أو انتسبوا وقت انجازاتِ هذا المسمى أو وجودِه الفعلي، كما يتغنى الحفيدُ بمآثر وأمجادِ أجداده، وليس له ولا فيه منها شيء، وإن كان الفخر بالأحسابِ في الأمة فإن من المفتخرين من جعله في الأحزاب والتنظيمات والجماعات لا القبائل والعوائل، روى أبو مالك الأشعري عن رسول الله أنه قال: “أربعٌ في أمتي من أمرِ الجاهليةِ لا يتركونَهُنَ : الفخرُ بالأحسابِ، والطعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنجومِ، والنياحة”. رواه مسلم.
فما يُغنِي الفخرُ بأسماء اختارها البشر لتجمُّعاتهم، وقد جعل الله الفخرَ بالإسلام، ولم يحدِّد رسوله صلى الله عليه وسلم الطائفةَ المنصورةَ الظاهرين على الحق باسمٍ معين، إلا أنهم طائفةٌ من المسلمين، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم أن معيارَ التفاضلِ هو العملُ وليس النَّسب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ”. صحيح رواه أبو داوود والدارمي وابن حبان، وإن التَّعَزِّي بعزاءٍ يَشُذُّ بالأنفسِ ويشتِّتُ الأمةَ عزاءٌ جاهليٌّ مُضِرٌّ، وإن لَبِسَ لَبُوسَ التَّديُّنِ، فالدينُ عند الله الإسلامُ، وأهله همُ المسلمونَ، سماهم ربهم جلَّ وعلا.
ومما يَعجَبُ له المرء أن الكثيرَ من المقصودين بهذا المقالِ يرفضون في منطلقاتهم النظريةِ الحدودَ المُصطنَعَةَ بين البلادِ المسلمة، حيث لم تكن في أولِ عهدِ الإسلام، بل وضعها الأعداءُ وملوكُ الجبرِ والتبديلِ من المنتسبين إلى الإسلام، وفي التطبيقِ العمليِّ للمنطلقات تجدهم – أي المقصودين بهذا المقال- يتَمَترسُونَ خلفَ الحُدودِ الحِزبيَّةِ والتَّنظيميَّةِ التي هم صنعوها ووضعوها وأحاطوها بهالةِ الرمزيَّةِ والقُدسيَّةِ وتمسكوا بها، يوالون ويعادون على أسمائها، ويَحصُرونَ الخيرَ والرِّيادَةَ فيها، ويدعون غيرهم إلى الانتسابِ إليها وتمجيدها، كأنهم يدعُون إلى الإسلام ذاته، ويجعلون جَفوَتَهم ورِيبَتَهم فيمن أبى.
بينما المنهجُ الحقُّ في جعل اسم الإسلام واسم المسلمين أعلى وأغلى وأولى، ولو كانت الأسماءُ الأقلَ والأدنى منها أسماءً شرعيةً في أساسها ومضمونها، لأن التعصبَ لها والتعزي بها ممارسةٌ جاهليةٌ خبيثةٌ منتنةٌ، يتبدل الحكم بتبدل نِيَّةِ استعمالها وطبيعةِ النظرةِ إليها، فعندما قال الصحابي المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الصحابي الأنصاري: يا للأنصار، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دَعُوها فإنها خَبِيثَةٌ” رواه البخاري، أو قال: “دَعُوها فإنها مُنتِنَةٌ” رواه مسلم -أي دعوى الجاهلية- وإن كانت الأسماءُ شرعيةً أساساً.
وما أحسنَ ما حَسُنَ وصَلُحَ به أمر الأمة في القرون الأولى، عندما رفع الصحابةُ قُرَشِيُّهم وحَبَشِيُّهم اسم الإسلامِ واستظلوا بلوائه وعزُّوا به، وضحَّوا في سبيل تمكينهِ، فكانوا على النَّهجِ الذي نسأل الله أن نكون عليه قولاً وعملاً: أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ … إن افتخروا بقيسٍ أو تميمٍ.
والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات العدد الحادي والخمسون من مجلة بلاغ لشهر المحرم ١٤٤٥هـ
https://fromidlib.com/مقالات-مجلة-بلاغ…٥١-_-المحرم-١٤٤٥/