هل القضاء في الشريعة مستقل؟!

⚡️ هل القضاء في الشريعة مستقل؟!

الحمد لله..
اتفق أهل العلم على وجوب استقلال القضاء في الدولة المسلمة، ومعنى استقلال القضاء:
“عدم تدخل أي سلطة في الدولة في الأحكام التي يصدرها القضاة؛ سواء كان ذلك بإملاء أحكام معينة، أو محاولة التأثير على القاضي لإصدار حكمٍ على نحو خاص، أو منع صدوره في قضية ما، أو منع تنفيذه إذا صدر، أو حتى تعويض هذا التنفيذ من غير حاجة” [علاقة السلطة القضائية بالسلطة الإدارية في الدولة الإسلامية، محمد الرشيد].

ولا شك أن استقلال القضاء هو الذي يُرفع به لواء العدل، حيثُ يطمئن الخصوم لعدم تأثير الأمراء والولاة على القضاة؛ فيستتب الأمنُ بين الناسـ وتصل الحقوق لأصحابها؛ فلا يأخذ الناس حقوقهم بأيديهم، ولا يفقدون ثقتهم بأحكام الشريعة التي يُصدرها القاضي؛ لما يعلمونه من استقلاله عن السلطة، ورجوعه في الحكم الشرعي للدليل لا لرأي الأمير وهواه.

وأجمعت النصوص الشرعية على أن مستند القاضي في حكمه: الوحي والإجماع والقياس والاجتهاد وفق ادلة الشرع العامة.
وأجمعوا أن قول السلطان كغيره من الأقوال؛ لا يُعتبر قوله مؤثرًا في الحكم القضائي إلا بقدر ما يملكه من الأدلة التي يعرضها أمام القاضي، وأنه لا يجوز نقل القضية من قاضٍ لآخر بعد إصدار الحكم الشرعي المستكمل للشروط الشرعية؛ لأن تغيير القاضي حينها يجعل القضية عُرضةً للأهواء، ولا يُؤدي لاستقرار القضاء، وهذا بابٌ للحكم بغير ما أنزل الله؛ حكمٌ بالهوى والرأي.

قال الله تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ‌وَلَا ‌تَتَّبِعْ ‌أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 48].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس ‌لأحد ‌أن ‌يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين ولا الكفار ولا الفتيان ولا رماة البندق ولا الجيش ولا الفقراء ولا غير ذلك: إلا بحكم الله ورسوله. ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}..”.

وقال أبو العباس ابن تيمية في موضع آخر -وهو كلام مهم جدا-:
“ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله ‌واتبع ‌حكم ‌الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة…
ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره: كان مستحقا لعذاب الله؛ بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله، فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم…
وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية؛ قد تنازع فيها الصحابة والتابعون، فحكم الحاكم بقول بعضهم، وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به: فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بذلك ويفتي به، ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم.
هذا كله باتفاق المسلمين”.

🔖 فهذا هو الاستقلال القضائي المنشود: أن يكون القاضي حرًّا من أن يتأثر بأمرِ الأمراء، وقرارات المسؤولين؛ فلا ينطق إلا بما وافق الشرع، ولا يحكم إلا بالكتاب والسنة.
وهذا هو معنى قول الإمام العادل عمر بن عبد العزيز: “لَا يصلح للْقَضَاء إِلَّا الْقوي على أَمر النَّاس، المستخف بسخطهم وملامتهم فِي حق الله، الْعَالم بِأَنَّهُ، مهما اقْترب من سخط النَّاس وملامتهم فِي الْحق وَالْعدْل وَالْقَصْد؛ اسْتَفَادَ بذلك ‌ثمنا ‌ربيحاً من رضوَان الله”.

وأمثلةُ ذلك في كتب التاريخ كثيرة؛ فقد كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله -قاضي البصرة-: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوار: إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، ‌فلست ‌أخرجها ‌من ‌يده إلا ببينة.
فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد.
فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق.
فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها والله عدلًا، وصار قضاتي تردني إلى الحق.

ولأنَّ القاضي مستقلٌّ؛ فقد حرمت الشريعة نقض حكم القاضي إن لم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد نقل القرافي الإجماع على وجوب اتباعه حينها، وحرمة نقضه من أي أحد [الإحكام، ص 42].

وبعد؛
فإنَّ من أبرز ضمانات استقلال القضاء وعدالته: اختيار القاضي الكفء: فيكون شجاعًا في الحق، ورعا، فطنا، عالما بالشرع.
فإن لم يكن حاله كذلك كان هذا مظنةً لخروجه عن العدل، وميله للهوى.. فبيد القاضي زِمام العدل وخطامه، وفاقد الشيء لا يُعطيه.

والله الموفق

#الزبير_الغزي

Exit mobile version