نصارى إدلب “مسائل وتنبيهات” – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٠ – صفر ١٤٤٤ هـ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فقد ظهر في الأيام الماضية تجمع لعدد من نصارى إدلب وهم يحتفلون بعيد لهم في إحدى الكنائس، بعد أن هُجر هذا العيد منذ تحرير المنطقة بسبب خروجهم من المناطق المحررة؛ إذ لم يبق منهم سوى أفراد معدودين في كل منطقة من مناطق تجمعاتهم سابقا وانقرض وجودهم في بعضها، وانتشرت صور ومرئيات تظهر شعائر كفرهم وتبرج نسائهم في هذا الاحتفال، وأمام هذه الحادثة كان هذا التنبيه على بعض ما يتعلق بهم من مسائل وأحكام، وهي:

– إشارات مختصرة،

– موجهة لطلاب العلم الذين يفقهون دلالات المصطلحات والتعابير والنقولات،

– حاولت أن يكون جل المذكور فيها محل اتفاق جماهير أهل العلم،

– بعيدا عن الأقوال الضعيفة أو الترجيحات المذهبية فيما يسوغ فيه الاختلاف، وما ساغ فيه الاختلاف لا حرج على من طلب الحق فيه بصدق فترجح له قول من الأقوال فتبناه.

 

1 – واقع نصارى الشام قبل تحرير المناطق:

لقد خان نصارى الشام المسلمين مرات كثيرة عبر التاريخ، من أشهرها ما حصل في الحروب الصليبية، وعند اجتياح التتار، وزمن الاحتلال الفرنسي والبريطاني، وفي ظل الحكومات العلمانية المعاصرة..

ومن أمثلة ذلك ما ذكره العيني عنهم في عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان بقوله: “وقد كانت النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتار، وتردد إيل سنان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هلاون، وجاء من عنده بفرمان لهم اعتنى بهم، وبوصية في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة، وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم واتضاع دين الإسلام، فركب المسلمون من ذلك هم عظيم، فلما هرب التتار من دمشق ليلة الأحد السابع والعشرين من رمضان أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها”.

وكذلك خانوا المسلمين في زمن ضعف العثمانيين، وداروا في فلك مخططات نصارى الغرب، قال محمد كرد علي في خطط الشام: “غدا قنصل روسيا مسيطرا على مسائل الروم الأرثوذكس، وقنصل فرنسا الحاكم المتحكم في قضايا الباباويين، وقنصل بريطانيا العظمى مهيمنا فيما يعرض للبروتستانت والدروز، وغدا أهل كل نحلة يجعلون من الدولة التي يمتّون إليها معقد آمالهم، ويدعون في سرهم وجهرهم أن يقرب أيام حكمها مباشرة عليهم، ونزل كثير من الطوائف عن مشخصاتهم فأصبحوا عربا بالدم متفرنجين بالتربية والعادات، يحتقرون ما كان عليه أجدادهم ويغالون في اقتباس ما عند غيرهم، خصوصا إذا كانوا ينتحلون نحلتهم ويرون في الآخرة رأيهم”.

وقد روجوا المذاهب المنحرفة التي جاء بها الاحتلال الغربي إلى بلاد الشام، ورفضوا عهد الذمة، وطالبوا بالدولة الوطنية والقومية، فكانوا هم قادة الأفكار المناقضة للإسلام من بعثية وقومية واشتراكية، فمنهم ميشيل عفلق، وإلياس مرقص، المناديان بالاشتراكية والقومية العربية، وأنطون سعادة المنادي بالقومية السورية، والماسوني فارس الخوري رئيس الوزراء السوري ورئيس البرلمان كذلك، والسفاح البعثي داود راجحة وزير دفاع بشار الأسد سنة 2011 و 2012 الذي ارتكب أبشع المجازر في حق الشعب السوري.

وما زال هذا الارتباط بالغرب والدعوة لإقامة نظم حكم غير إسلامية قائما إلى هذا اليوم، فهذا أحد مقدميهم المعاصرين وهو البطريرك الماروني بشارة الراعي يلتقي الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند مطالبا بـمكافحة ما سماه تهميش المسيحيين في بلدانهم.

ولنصارى الشام دور كبير في إفساد أخلاق المسلمين ودينهم عبر ما يسمى بالفن والثقافة منذ عهد الاحتلال الغربي، بل ولهم دور خطير في التنصير في بلاد الشام عبر التعاون مع ما يسمى بالإرساليات التبشيرية والمدارس والجامعات النصرانية، قال محمد كرد علي: “توجه الإرساليات أفكارها إلى هذه الديار مهبط الوحي ومهد المسيحية؛ لإنعاش المسيحية وتبشير غير المسيحيين بها”.

وقد أكثروا من بناء الكنائس في بلاد الشام بلا مراعاة لأي ذمة أو عهد، قال محمد كرد علي: “ومعظم الكنائس والأديار في الشام اليوم بعد كنائس القدس وبيت لحم ودمشق هي مما أنشئ في القرون الأخيرة”.

ويضاف إلى ذلك أن استيلاء الغرب على سوريا ثم الحكومات العلمانية القومية، حول البلاد من بلاد يحكمها الإسلام إلى بلاد يحكمها الطاغوت، ولا تجري فيها أحكام الإسلام، ومنها أحكام أهل الذمة، فلم يعد النصارى يدفعون الجزية، ولا يقبلون الصغار، ولا يلتزمون الاحتكام إلى ما يلزمهم الاحتكام إليه من أحكام الشريعة الإسلامية، وينخرطون في الأحزاب العلمانية الكفرية المحاربة للإسلام، ويتولون القضاء والوزارات العامة، ويظهرون الصلبان وبيع الخمور وارتكاب الفواحش، ويستقوون بنصارى الخارج على الأمة، ويقاتل أبناؤهم مع النصيرية ضد المسلمين، ويكثر فيهم سب الرب جل وعلا وسب دين الإسلام…

2 – دعوة النصارى للإسلام من أهم وظائف المجتمع المسلم:

الدولة المسلمة دولة هداية، وعماد المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)، فالواجب هو دعوة النصارى خاصة من أقام منهم بدار الإسلام إلى دين الإسلام وبشارة من أسلم منهم بخيري الدنيا والآخرة وإنذار الكافرين بأليم عذاب الله.

ولملاحظة دور الهداية فإن المجتمع المسلم لا يتشوف لسكن النصارى في ديار الإسلام إلا بمقدار يلاحظ هذا الدور؛ يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)، ويدل عليه الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، والنهي عن السكنى بين أظهر المشركين، ونبذ العهد لمن خيفت خيانته، وإجلاء الناكثين عهدهم من دار الإسلام أو استئصال شأفتهم، كما حصل مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة…

أما تعامل الإدارات المحلية والفصائلية معهم تعامل المصالح الشخصية الطالبة رضا نصارى الغرب بعيدا عن وظيفة الدعوة والهداية فهذا مزلق خطير وركون للظالمين لا يزيد المتعامل معهم إلا رهقا، كما قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا).

ويزداد الوضع سوءا حين تنطلق الدعوات لاستقدام النصارى الذين خرجوا من إدلب ليستوطنوها، رغم اعتراف أصحاب تلك الدعوات بضعفهم عن إجراء أحكام أهل الذمة عليهم إن قدموا، وبعدهم عن أي دور هداية يخصص لهم، وفي هذا صد للمسلمين والمشركين عن سبيل الله تعالى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

3 – التزام الصغار شرط لاعتبار النصارى أهل ذمة:

قال تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))، قال الشافعي في الأم: “لم يأذن الله عز وجل في أن تؤخذ الجزية ممن أمر بأخذها منه حتى يعطيها عن يد صاغرا”.

وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: “إن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله وليست له ذمة”.

وقال ابن عاشور في تفسير الآية: “أي وهم أذلاء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد، والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي، وتحقير أهل الكفر؛ ليكون ذلك ترغيبا لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتباعهم دين الإسلام”.

فإذا ظهر بدلالة الحال والمقال رفض نصارى بلاد الشام كونهم أهل ذمة وامتناعهم عن الجزية، فلا يصح إلحاقهم بأهل الذمة وأحكامهم، وينظر لأمرهم في أبواب أخرى من التعامل كنقض الذمة، أو الأمان بضوابطه، أو الإعراض عن بعض الشؤون المتعلقة بهم مرحليا للضرورة..

ورغم ظهور نقض النصارى لعقد الذمة مع المسلمين عبر التاريخ ورفضهم الصغار حاليا، فلو قال قائل باستئناف عقد الذمة لأطفالهم ونسائهم عند إعادة تحرير أرض من الشام تخريجا على الإجماع الذي ذكره ابن حزم في مراتب الإجماع بقوله: “اتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسل منهم فإن الحكم الذي عقده أجدادهم وإن بعدوا جار عليهم لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم” فقوله محل تأمل؛ لأن النساء والأطفال تجري عليهم أحكام الإسلام ولا تجب عليهم الجزية التي هي من أدل مظاهر الصغار، خلافا لرجالهم الذين يرفضون الجزية، فإذا بلغ أطفالهم الذكور ورفضوا الجزية لم يكونوا أهل ذمة.

4 – النصارى الذين خرجوا من إدلب واختاروا الاستيطان في دار الحرب نقضوا عهد الذمة:

إن صح أن لأحد النصارى ذمة أو أمانا ثم خرج من إدلب واختار الاستيطان في دار الحرب لا مجرد النزوح المؤقت، صار ممتنعا من التزام أحكام الإسلام الواجبة عليه، وقد نقض عهد الذمة بذلك، فإذا أضيف لذلك قتاله المسلمين مع أعداء الإسلام، أو تحريضه الكفار على المسلمين، فهي ظلمات بعضها فوق بعض..

وقد نُقل الإجماع على انتقاض الذمة باختيار استيطان دار الحرب، قال ابن تيمية في الصارم المسلول: “إن ناقض العهد قسمان: ممتنع لا يُقدر عليه إلا بقتال، ومن هو في أيدي المسلمين؛ أما الأول فأن يكون لهم شوكة ومنعة فيمتنعوا بها على الإمام من أداء الجزية والتزام أحكام الملة الواجبة عليهم دون ما يظلمهم به الوشاة، أو يلحقوا بدار الحرب مستوطنين بها، فهؤلاء قد نقضوا العهد بالإجماع..”، وقد ذكر المرداوي في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف أن هذا هو الصحيح الذي تتابع على ذكره العلماء وإن وُجد من خالف في ذلك دون ذكر اسمه، فقال: “وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية، أو التزام أحكام الملة: انتقض عهده..، وكذا لو لحق بدار الحرب مقيما بها، على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: هذا الأشهر، وجزم به في الحاويين، والرعايتين، والمغني، والشرح، وغيرهم. وقيل: لا ينتقض عهده بذلك”..

5 – وجود أمان للنصارى المقيمين في المنطقة المحررة:

الذي ظهر خلال الثورة السورية أنه تكرر من شخصيات عامة وفصائل مقاتلة وغرف عمليات وإدارات محلية أنهم أمنوا النصارى الذين يسكنون في المناطق المحررة، بصيغ وعبارات متعددة، وأظهر المجاهدون عدم اعتراضهم على سكنى هؤلاء النصارى في ديار المسلمين، وعملوا على توفير الخدمات المعيشية لهم، وهذا الأمان وإن كان في الغالب عفويا لم يراع تبيين صورة الأمان وما يشمله وما لا يشمله؛ فإنه يفيد في العموم وجود أمان أو شبهة أمان للمقيمين في المناطق المحررة تُعصم به دماؤهم وأموالهم إلى حين: ضبطه بعقد الذمة أو عقد الأمان، أو نبذه على سواء إن لم ينضبط بذلك، أو نقضهم له، أو ارتكابهم ما يرفع العصمة أو بعضها عنهم..، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» رواه البخاري.

6 – للأمان خوارم ونواقض:

إذا صح أمان الكافر، فإن لهذا الأمان شروطا وله خوارم ونواقض، فعليه أن يلتزم أحكام المعاملات الإسلامية العامة، وألا يتعدى على المسلمين، ولا يتجسس عليهم، ولا يذكر الإسلام بسوء، ولا يظهر شعائر الكفر.. إلى غير ذلك مما نص عليه أهل العلم.

ومن خالف ذلك انتقض أمانه، أو عوقب على مخالفته، أو نبذ إليه على سواء، أو رد إلى مأمنه خارج دار الإسلام، على تفصيل في ذلك مذكور في كتب الفقه، قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، وقال جل وعلا: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).

7 – أثر الضرورة في التعامل مع النصارى:

لا يخفى أن نصارى الشام يستقوون بأمم الكفر، وتتخذهم أمم الكفر ذرائع للتدخل في شؤون المسلمين والضغط عليهم وابتزازهم، وهذا في ظل حالة الضعف التي تمر بها الأمة وتكالب الأعداء على المناطق المحررة، والحاجة إلى تحييد بعض الأعداء أو تقليل شرهم، يؤثر في القدرة والاستطاعة فيعجز المسلمون عن القيام ببعض الواجب لعدم القدرة، والله جل وعلا يقول: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْولكن مما تجب ملاحظته في تلك الحال:

 

أ – البعد التام عن المداهنة: قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)، قال الطبري في التفسير: “ودّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك”، فهناك فرق كبير بين ترك هدم كنيسة وجب هدمها للعجز، وبين المسارعة لترميمها والتشجيع على قيام شعائر الكفر فيها؛ استرضاء لدول الكفر وطلبا لاعتمادهم، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: “ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن، أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه [دفعوا له رشوة] ودخلوا عليه برغبة أو رهبة، أو رجل جاهل في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين”.

ب – الحذر الشديد من تحريف الشريعة: يأنف بعض المبتدعة من الاعتراف بالعجز أو الضعف وعدم القدرة، فيلجأ لتحريف الشريعة والكذب على الله جل وعلا وشرعنة العجز، ويفتش في كتب الفروع عن شواذ الأقوال المهجورة التي يقيس عليها بهواه ما يُسوِّغ به فعال النصارى المنكرة ويبرر به وجودهم على تلك الصفة وأعمالهم الباطلة، قال الله جل وعلا: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وإن تكييف الأصل ومعرفة الاستثناء وذكر التوصيف الشرعي للأمور، ضروري لمنع تحريف الشريعة، فلا بد من تكييف واقع النصارى والأصل في أحكامهم، ثم يُذكر الاستثناء الحاصل للضرورة، وبذلك يُقطع الطريق على من يعمي الأمور فيفتح المجال واسعا لشرعنة الأفكار الوطنية والقومية المنحرفة التي تستبعد الدين وتقيم العلاقات على أسس جاهلية، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

ج – مع تقدير الضرورة بقدرها لا بد من مراعاة أحوال المسلمين حتى لا يكون الواقع إعزاز الكفار وإذلال المسلمين: فيصبح الحال مناقضا لمقصود الشريعة؛ فيلين المفتون في معاملة النصارى، ويظهر التودد لهم، ويجتهد في خدمتهم، ويترك معاملتهم بما وجب عليهم من أحكام الشرع؛ محتجا بالحاجة والضرورة، وهو في نفس الوقت يزعم التمكين والقدرة وعدم المفسدة في تسلطه على المسلمين، وظلمهم، وفرض المكوس الجائرة عليهم، وجمع الزكاة منهم حتى فيما يخالف مذهبهم الفقهي المعتبر وصرف كثير منها في غير مصارفها الشرعية، وملاحقة الناصحين وتعذيبهم، وإذلال أعيان المسلمين ووجوههم، فهو وزبانيته رحماء على الكافرين أشداء على المسلمين، وهذا من انتكاس الفطرة وارتكاس القلب، أعوذ بالله من الخذلان.

8 – أنواع دور عبادتهم:

هناك أنواع متعددة لدور عبادة النصارى؛ حسب زمن بنائها ومكانها وطريقة فتح البلد..، ولكل نوع حكم، وقد يوجد في بعض تلك الأنواع خلاف فقهي معتبر، ولا حرج أن يرجح طالب الحق ما ظهر له قوة دليله من تلك الأقوال المعتبرة؛ ولكن مما تنبغي الإشارة له:

– أن ما استحدث من كنائسهم ودور عبادتهم خاصة زمن الاحتلال الغربي والأنظمة العلمانية العميلة في أمصار المسلمين كمدينة إدلب ليس كما تركه المسلمون بين أيديهم عند فتح البلاد، قال ابن الهمام الحنفي في فتح القدير: “أمصار المسلمين ثلاثة: أحدها ما مصره المسلمون كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط، فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع لصلاتهم ولا صومعة بإجماع أهل العلم، ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنازير وضرب الناقوس. وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز فيها إحداث شيء بالإجماع..”.

وكثير من كنائسهم في منطقة إدلب اليوم لم تكن موجودة زمن فتح المنطقة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما تسمى كنيسة القديسة هريبسيمي في قرية اليعقوبية بنيت قبل قرابة سبعين سنة، وما يسمى دير القديسة آنا باليعقوبية لا يوجد ما يؤكد قدمه والظاهر أنه كان قائما في القرن الثامن الهجري، ثم تهدم تماما في القرن الثاني عشر الهجري بسبب الزلازل، وظل كذلك أكثر من تسعين سنة ثم بني من جديد، ولعل بناء تلك الكنائس حصل في وقت كانت تلك المنطقة برِّية انفرد بسكناها النصارى، وهناك قول لبعض أهل العلم بجواز عدم التعرض لكنيسة في قرية انفرد النصارى بسكناها، ولكن تلك المنطقة لم تعد اليوم قرية انفرد النصارى بسكناها بل أصبحت مصرا من أمصار المسلمين، ولا وجود فيها للنصارى سوى عدد محدود جدا منهم، وهذا التغير في وصف القرية له تأثير في الفتوى.

– أن الأماكن الدارسة البائدة خاصة ما كان منذ زمن الرومان، والتي لم تعد في القرون الأخيرة كنائس، ولا فيها نصارى، واستوطن المسلمون حولها، كقلعة سمعان في دارة عزة وما يسمى دير ترمانين وآثار الكنيسة البازليكية..، فإن إلحاقها بالكنائس والعمل على وضع يد النصارى عليها خلل كبير.

– أن مراعاة واقع النصارى في البلاد له أثر على تناقص عدد دور عبادتهم عبر التاريخ؛ فقد كان عامة أهل الشام نصارى عند الفتح الإسلامي وكانت دور عبادتهم كثيرة، ولكن دخول أكثرهم في دين الإسلام، وانتقال بعضهم لدار الحرب، ونقض بعضهم للذمة..، أدى لتناقص أعداد هذه الكنائس عبر التاريخ، فالظن أن من سماحة الإسلام تركها على حالها رغم تغير الظروف ظن في غير محله.

– أن خروج النصارى من منطقة إدلب وريف حلب واستيطانهم دار الحرب، وعدم بقاء أحد منهم في المنطقة إلا بضع بيوت هنا أو هناك، ومن بقي من رجالهم لا يقر بالجزية والصغار، يؤثر في حكم دور عبادتهم، خاصة ما هجروه منها واستوطن النازحون المسلمون حوله.

– أنه رغم الإقرار بوجود حالة ضرورة في التعامل مع النصارى؛ فإن عدم تقدير تلك الضرورة بقدرها يؤدي للتضييق على المسلمين وإعزاز الحفنة الباقية من النصارى المشركين؛ فإن كثيرا من الكنائس في أمريكا وأوروبا تباع وتحول لمساجد، فلماذا هذا الحرص الغريب على ترميم دير مهجور أو إخراج نازحين من سكن كان ملحقا يوما من الأيام بكنيسة هي اليوم مهجورة؟!

 

* وختاما: فقد كانت هذه إشارات وتنبيهات مختصرة تهدف إلى توضيح بعض المسائل المتعلقة بنصارى إدلب، والقضية تحتاج إلى توسع بحث ومزيد تفاصيل، عسى أن ينهض لذلك الأكفاء من الباحثين، والحمد لله رب العالمين. 

Exit mobile version