الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحضارة: هي جملة مظاهر الرُّقِيِّ العِلميِّ والعَمليِّ والشَّرعيِّ والأدبيِّ والاجتماعيِّ في التَّجمعاتِ البشريَّةِ، تتشابهُ أو تتخالفُ، تتوافقُ أو تتناقضُ، تتعايشُ أو تتصارعُ، وهي من الجذر حَضَرَ عكسُ البداوةِ، فهي مرحلةٌ متقدِّمةٌ من مراحل التَّطوُّرِ الإنسانيِّ، تتميَّزُ بميزاتها في كل صورةٍ من صورها.
ولأن الحضارات تُولد وتكبُرُ ثم تذبلُ وتموتُ شأنها شأنُ الوحدة الأساسية في بنائها وهو الإنسان، كانت الحضارات متعددةً ومتعاقبةً، يمكن الحكمُ عليها ووزنها، والمفاضلةُ بينها، لكن ما هو الأساسُ الأصلحُ والأثبتُ، وما هو المعيارُ الأنسبُ للتَّفاضلِ الحضاريِّ؟.
في هذه العُجالةِ لا يتسعُ المقال لعرض أفكارِ مدارسَ وشخصياتٍ كثيرةٍ اهتمت بهذا الباب من أبواب المعرفة، وهو بابٌ هامٌ لأهمية ما يُعنى به، ولأهمية نتائجه، فخير مدخلٍ نختصر به المقال هو كتاب الله وسنّةُ نبيه صلى الله عليه وسلم، ففيهما الغنى والكفاية، ولقد وردت فيهما المعايير الأساسيَّةُ الصَّحيحة.
– إن أول معيارٍ للتفاضل الحضاري هو الغاية من الحضارة كلها، فهي مبرّر نشأتها وتفاعلاتها، وبما أن الحضارة هي إحدى مظاهر ونتائج وجود الإنسان على الأرض، وإحدى وسائل استمراره، فغايتها الحقَّة هي غاية وجوده، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، وإن العبادة الصحيحة تكون بالتوحيد والعمل الصحيح وفق أمر الآمر جلَّ وعلا.
فإذا حضرت المعايير للتفضيل بين الحضارات، فمعيار عبادة الله الواحد هو الأكبر وهو ركن التفاضل؛ حيث ينهدم كل ما لا يبنى عليه من المظاهر الحضارية، فما يبنى بلا أساس واقعه الضعف والخواء ومصيره الانهيار، وإن للتوحيد أثراً بالغاً في توظيف الناس في تيارٍ واحدٍ، أفراداً ومجموعاً ويرتقي بهم معاً، «لا يبغي أحدٌ على أحدٍ ولا يفخر أحدٌ على أحدٍ»، ولا يتمزَّقُ جسد الحضارة بالنَّزعات الشخصية والجزئية، ولذلك كانت الحضارة الإسلامية أكثر الحضارات ديمومةً وتماسكاً ما دامت على هذا المبدأ والمعيار الأساس.
– ويأتي العلم ثانياً، وهو جزء من المعيار الأول؛ فالدينُ والعبادةُ يقومان على العلم، والإنتاجُ في أي مظهرٍ من مظاهر الحضارة يعتمد على العلم، لذلك كانت آية العلم أول الآيات نزولاً من السماء، قال الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) [العلق: 1 – 5]، ولفضل العلم وأثره الحضاريِّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرُ الله، وما والاه، وعالمٌ أو متعلمٌ» رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني، وإن معيار العلم متفقٌ عليه بين كلِّ الحضارات، فلا يكون عملٌ ولا يصلح بغير علمٍ، وما شذَّ عن هذا التوافق إلا من طغى، وللمفارقة فإن الطُّغيان يكون بعد إنجازات عِلميَّةٍ وعمليَّةٍ ينتفع بها الطَّاغون ثم ينكرونها، فسبحان الله.
– ثم إن من أهم معايير التَّفاضلِ الحضاري العملُ، قال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ..) [التوبة: 105]، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، بغير عملٍ لا تكون عمارة البشر للأرض، ولا يكون إفراغ العلم النَّظريِّ في تجليه العمليِّ، ولقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم وحثَّ على العمل، حتى في وقت زوال الدنيا، تأكيداً على المعنى وربطه بطلب الأجرِ، قال صلى الله عليه وسلم: «إن قامتِ السَّاعةُ وبيد أحدكم فَسيلةً، فإن استطاع ألَّا يقوم حتى يغرِسَها، فليفعل» أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الإتقانِ والإحسان، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» أخرجه أبو يعلى والبيهقي، فإن العمل وإتقانَه ميزةٌ حضاريّةٌ ومعيارُ تفاضلٍ حضاريٍّ تتفاضل به الأمم، فالأمَّةُ التي لا تعمل لا ترتقي ولا تنتج، والأمة التي تتقنُ عملها يرتفع قدرها الماديُّ والمعنويُّ بين الأمم.
– والعدلُ معيار تفاضلٍ حضاريٍّ تقوم به الحضاراتُ وتنهدمُ بتضييعه، ذكره الله عز وجل مع الأسس التي لا بد منها لقيام الحضارة ونشوء الدولة، وهي القانونُ أي الشَّريعةُ بما فيها من أحكامٍ قضائيَّةٍ، وتنفيذُها بالعدلِ، والبأسُ الشَّديدُ بالحديد وغيره الذي هو أداةُ التنفيذِ، قال الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد: 25]، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظٌ للدين وقيامٌ بالعدلِ، قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: ١١٠]، في هذه الآية بالتَّحديدِ تتَّضحُ المفاضلةُ والخيريَّةُ، فهذه الأمة خيريَّتها في إيمانها وعدلها، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنه لا قُدِّستْ أمَّةٌ لا يأخذُ الضعيفُ فيها حقَّهُ غيرَ مُتَعتعٍ» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني في صحيح الجامع، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أسباب هلَكَةِ الأممِ وانهيارِ الحضارةِ غيابُ العدلِ، قال: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ» رواه البخاري، وإنَّ من عُرفِ الناس المستقر أن العدلَ أساسُ الملكِ، وأن دولةَ العدلِ تقومُ وإن كانت كافرةً، ودولة الظلمِ تزولُ وإن كانت مسلمةً.
– ثم إن الأخلاقَ معيارٌ جامعٌ لكل معاييرِ التفاضلِ الحضاريِّ الأدبيَّةِ بعد الاستنادِ إلى الركنِ الأساسِ وهو الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، فلقد اختار الله جلَّ وعلا العربَ لكي يكونوا حملةَ لواءِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ لما عندهم من أخلاقٍ كريمةٍ موروثةٍ مما قبل الإسلام، فأرسل إليهم خاتم الأنبياء والمرسلين ليتمِّمَها به لهم ثم للعالم بهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» رواه البزار والبيهقي، وصححه الألباني، وفي رواية: «إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الْأَخْلَاقِ» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
ولقد صدق الشاعر أحمد شوقي -رحمه الله- إذ قال:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت
فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
* هذه المعايير الأساسيَّةُ الصَّحيحةُ لا يتَّفقُ عليها الناس، بل هي محلُّ خلافٍ لأسبابٍ منها الجحودُ والافتتانُ بالمظاهرِ الحضاريَّةِ؛ فمنهم من ينظرُ بمنظورٍ ماديٍّ، فيقيس ويُمايِزُ بالثَّروةِ والبنيان ومدى الرفاهِ الذي يختلف من حضارةٍ إلى أخرى ومن أمَّةٍ إلى أخرى، بنسبٍ وتوزيعٍ قد يختلفُ عما تقره المعايير التي ذكرناها أعلاه، فلربما كانت المظاهر انتفاشاً داخله خواءٌ لا يقوم على أساسٍ، وفي الغالب تكون هذه نظرة الكفرِ والجاهليَّةِ التي يشعرُ أهلها بالغلبةِ والغنى الذي يرافقه الطُّغيانُ.
* من أوضحِ الأمثلة على الطغيانِ الذي يجعل المادة معيارَ تفاضلٍ، لجوءُ فرعون في محاجَّته موسى عليه السلام إلى تذكيرِ قومهِ بالثروةِ والملكِ والغلبةِ الماديَّةِ، كمعيارٍ يفضِّلهم حضارياً على موسى عليه السلام وقومِه، ويرد على دعوته إلى التَّعبُّدِ لله عزَّ وجلَّ وحده، (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف: 51]، حيث لا يخطرُ له إلا النظرةُ الماديَّةُ التي تربَّى ومَرَدَ عليها، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)) [غافر: 36 – 37].
وإن المعيارَ الماديَّ هو المعيارُ الباطلُ الذي استعمله قوم نوحٍ عليه السلام، في الردِّ عليه والمفاضلة بينهم وبين اتباعه، (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) [هود: 27].
وهو المعيارُ الباطلُ الذي استعمله صاحبُ الجنَّتينِ، بالنَّظرِ إلى ما آتاه الله ثم البطرِ، (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) [الكهف: 34]، فأودى به إلى كفر الجحود والعياذ بالله.
وهو المعيار الباطل الذي استعمله بعض بني إسرائيلَ عندما تمنَّوا ملك قارونَ، (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]، فما كان إلا قليلاً من الوقت، حتى رأوا أن المظاهرَ التي يتَّخذُها قارونُ لا أساسَ لها، فخَسَفَ الله به الأرضَ آيةً للعالمين.
وهو المعيار الباطل الذي استعمله بنو إسرائيل للاعتراض على ولاية طالوتَ الذي اختاره الله ملِكاً لهم، (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 247]، فكان خواؤهم الفكري سبباً في توليهم عندما كتب عليهم القتال، وسبباً في فشل معظمهم في امتحاناتِ الصَّبرِ التي واجهتهم، ليستمر طالوتُ وقليلٌ منهم معه، ويرزقهم الله النَّصرَ المرتكزَ إلى أساسٍ متينٍ.
* بالأدلةِ القرآنيَّةِ، ثم بواقع الحال الذي فيه من هذا وذاك، نعلمُ أن إهمالَ معايير التفاضلِ الحضاريِّ الصَّحيحةِ موجودٌ عند أهل الكفرِ وعند قسمٍ من أهل التوحيد، ولربما غلبتِ النظرةُ الماديَّةُ على من أساسُ دينه الإسلام، فأخذ يقارن بما يراه من تطورٍ تقنيٍّ، وتطاولٍ معماريٍّ، وغنىً ماليٍّ، ولهوٍ ولعبٍ وزينةٍ، فيكونُ على شفا حفرةٍ من الافتتانِ، وإن الدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، يعطيها لمن يحبُّ ولمن يبغِضُ، أما الدِّينُ وما يتبعه من أسبابِ الرقيِّ الحضاريِّ الصَّحيحةِ فلا يعطيه الله إلا لمن يحبُّ من عباده.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إعمال هذا المعيار الماديِّ، ولو كان من باب التَّعجبِ أو الاستنكارِ، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «رَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ، فَقالَ: ما يُبْكِيكَ؟ فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللهِ! فَقالَ: أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ» صحيح البخاري.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في مظاهر الحضارة الماديَّةِ، فالجانب المادي ومنه المعماري أثر ظاهرٌ للحضارة وليس أساساً أو معياراً لها، ومنه يخشى الفتنة والالتهاء عن الأهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى» رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وقال صلى الله عليه وسلم لصحابته: «أَبشِروا وأمِّلوا ما يسُرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسطتْ على من كان قبلكم، فتَنافَسوها كما تَنافسوها، فتُهلِكَكم كما أهلَكتْهم» متفق عليه.
وفي النَّهيِ عن البناءِ إلا لحاجةٍ ونفعٍ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما إنَّ كل بناءٍ وبالٌ على صاحبه إلا ما لا ، إلا ما لا»، يعني: ما لا بد منه. رواه أبو داود وابن ماجه.
وعن خبَّاب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤجرُ الرجلُ في نفقتِه كلِّها إلا التُّرابَ» أو قال: «في البناء» رواه الترمذي وابن ماجه.
وفي النَّهيِ عن كسوة وتزيين البناء، عن عائشة -رضي الله عنها-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِن اللهَ لم يأمُرْنا أن نكسوَ الحجارةَ والطينَ» رواه مسلم.
ومع هذا كله وغيره مما هو كثيرٌ لو أردنا الاستزادة من الأدلة والنقولات والتعليق عليها، تجد أكثرَ الناسِ يتركون الأساسَ واللُّبَّ لينظروا ويهتموا بالقشورِ، وتغلبُ عليهم النَّظرةُ المَاديةُ، وتفتنهمْ مظاهرُ الحضارةِ التي رأوها عند غيرهم، فينشغلون بها، ومنهم من يدعو إلى الانشغال بها، فيكون ضالاً مضلاً ويحسبُ أنه على شيء، فيباهي الناس بالبناءِ والطرقاتِ والإنارةِ التي هي لا شيء إذا قيس ما يباهيه بمن (عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا)، ويهمل العبادة والعلمَ والعملَ والعدلَ والأخلاقَ، وأكثر من ذلك يفرق بين المسلمين أنفسهم، بهذا المعيار، ويظهر زينته فوق واقع التَّجهيلِ والتَّعطيلِ والظُّلمِ والفجورِ، هناك أمثلةٌ كثيرةٌ معروفةٌ، فلقد نُكِبتْ أمَّتنا بهذا الضَّلال والعُقوق، وهو في تزايدٍ من تقدُّمِ الزَّمانِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أصلح شأننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ