الأستاذ: خالد شاكر
[الفتوى تعظم على مقدار بلدها، فليس مفتي دمشق كغيره غالبا] “الأربعين في الأحاديث النبوية لابن الرسام المتوفى سنة 844”.
أصدر رأس النظام النصيري البعثي المجرم بشار الأسد قرارا ينهي وجود منصب مفتي سوريا ويحيل مهامه لما سماه “المجلس العلمي الفقهي”، وقد أثار هذا القرار ردود أفعال وتحليلات عديدة، وتبعه إعلان المجلس الإسلامي السوري انتخاب مفت لسوريا وهو الشيخ أسامة الرفاعي، وإزاء هذا الحدث كانت هذه التعليقات:
أولا- الإفتاء أمانة:
الإفتاء أمانة عظيمة، قال النووي في آداب الفتوى: “اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل؛ لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى، وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم”.
فالمفتي مبلغ عن الله جل وعلا مبين للناس ما نزل من الحق، وليس هو مجرد منصب في الدولة يتخصص له شخص محدد، بل الإفتاء يتسع لكل من توفرت فيه شروط الفتوى، فكل من يفتي للناس هو مفت، وتتفاوت درجات المفتين بتفاوت درجتهم في العلم والتقوى، وعلى هذا المعنى وردت كلمة ابن الرسام: “الفتوى تعظم على مقدار بلدها، فليس مفتي دمشق كغيره غالبا” فالمراد بقوله “مفتي دمشق” الذين يفتون في دمشق وليس شخصا معينا، فلم يكن وقتها يوجد شخص محدد اسمه مفتي دمشق، وعظمت مكانة من يفتون بدمشق لأنها يومها مجمع العلماء وحاضرة المدارس العلمية فلم يكن يجلس للإفتاء فيها إلا من علا نجمه واشتهر بين العلماء فضله.
ثانيا- منصب المفتي في ظل الدولة العثمانية:
اشتهر إنشاء منصب المفتي في ظل الدولة العثمانية التي أنشأت منصب شيخ الإسلام كأكبر منصب للمشايخ يتبع له مفتون في عدد من حواضر الدولة العثمانية، وقد اختلفت مهام شيخ الإسلام والمفتون في ظل الدولة العثمانية من عهد إلى آخر؛ ومن المهام التي أنيطت بهم: إجابة المستفتين، وإصدار الفتاوى في الأمور السياسية والشؤون العامة، وترشيح القضاة، وسن القوانين، وإدارة المدارس الشرعية..
وفي دمشق عينت الدولة العثمانية عشرات المفتين من أولهم الشيخ محمد بن رمضان الدمشقي المتوفى سنة 913، وآخرهم الشيخ أبو الخير عابدين الذي عُزل من منصبه سنة 1919 بعد دخول القوات العربية والبريطانية إلى سوريا.
ثالثا- منصب المفتي بعد الدولة العثمانية:
بعد انهيار الدولة العثمانية استولى المحتلون خاصة البريطانيون والفرنسيون على أكثر دول العالم الإسلامي، وقامت حكومات علمانية، وتحول القضاء في أكثره إلى قضاء طاغوتي لا يحكم بالشريعة الإسلامية، وألغت بعض الدول منصب المفتي، وأبقت بعضها عليه كمنصب رمزي يحاولون به تضليل الجماهير واستخراج الفتاوى المسيسة ضد خصوم الحكام السياسيين، وقد ينشغلون بتحديد موعد دخول شهر رمضان أو يكتبون التهاني للأمة بحلول عيد الفطر أو الأضحى..، ومع مرور الزمن وازدياد الوضع سوءا أصبح منصب المفتي في جل العالم الإسلامي منصبا من مناصب السلطة الحاكمة في هذه البلد أو تلك يتولاه من يختاره لهذا المنصب العلمانيون لا العلماء الشرعيون ممن يراه العلمانيون ضعيفا أو منافقا يمكنهم من خلاله جعل الفتوى تابعة لأهوائهم المضللة، حتى وصل لهذا المنصب في سوريا أحمد حسون المشهور بنفاقه للعصابة النصيرية البعثية المجرمة.
رابعا- المفتون المأمولون:
إن منصب الإفتاء الذي ألغاه النصيرية لم يكن بواقعه الأخير إلا أداة بيد أعداء الإسلام يهدمون به الحق وينشرون به الباطل..
أما منصب الإفتاء الذي أعلن عنه المجلس الإسلامي السوري فقد حصَّلوا بإعلانهم هذا على رمزية معينة في حفظ اسم منصب المفتي قائما في مجلسهم، ويبقى التحدي الحقيقي في أثر هذا المنصب الذي أعلنوا عنه في واقع الحياة.
فإن كان المفتي الجديد الذي أيده المجلس الإسلامي والائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة، وادعوا تمثيله لهم، قادرا على القيام بالمهام المفترضة له في واقع الأمة ومن أهمها إعادة الحكم بالإسلام في محاكم وزارة العدل بالحكومة المؤقتة بعد أن تحول الحكم فيها إلى الحكم بالطاغوت والقانون السوري المناقض للشريعة، فهذه بشرى خير إن شاء الله، وإن كان الأمر غير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي كل الحالات فإن الحاجة اليوم ماسة لاستعادة مكانة المفتين عامة وليس فقط كمنصب لشخص ما، مفتون يوقعون عن الله جل جلاله (يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ)، يضعون نصب أعينهم قوله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ).
وكلما زاد المفتون المتقون زاد الخير وقل الشر وانصلحت الأحوال وانقمعت الفتن بإذن الله تعالى.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣١ جمادى الأولى ١٤٤٣ هـ
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا
لقراءة المجلة تابع ⇓
مجلة بلاغ - عدد 31 - جمادى الأولى 1443