معركة التغيير والأخطاء القاتلة 18 – آفة التحزب وقوقعة الوهم || كتابات فكرية ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢⁩

مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢

الدكتور: أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

يقول تعالى: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

روى البخاري ومسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ (ضرب الدبر باليد أو بالرجل) رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ!! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!! فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ).

وروى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

يقول ابن القيم رحمه الله: «الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية».

 ويقول ابن تيمية رحمه الله: «كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو عزاء الجاهلية».

 التعصب في اللغة: أن يدعوَ الرجل إلى نُصرة عَصَبَتِهِ (أي قَوْمه) والتألُّب معهم على من يُناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين.

والمعنى الاصطلاحي كما وضحه ابن تيمية وتلميذه أعم؛ إذ لا يقتصر على القوم والنسب بل يتعداه إلى البلد والمذهب والطائفة والمشايخ، وجميع ذلك يستند إلى قاعدة: انصر أخاك ظالما أو مظلوما بالمفهوم الجاهلي وليس بالمفهوم الإسلامي السني الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه البخاري: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره).

وفي واقعنا المعاصر فإن المتأمل لواقع جماعات الإسلام الحركي وسلوك أفرادها بشكل عام يرى بوضوح كيف أن العقلية الجبرية السائدة فيها على مستوى الرؤية والاستراتيجيات والتطبيقات قد أفرزت نماذج عملية تحاكي نماذج الواقع الجبري ومنها آفة التحزب وظاهرة قوقعة الوهم الحزبية؛ حيث: احتكار الحق، ودعاوى الوعي ورشد الاختيارات والاجتهادات، وتضخيم الإنجازات، وتقزيم الطامات من الإخفاقات بحق الحزب (الجماعة) ونسبة الضد بحق الخصوم، في صورة تطغى فيها نظرية الحزب الواحد في ساحة دفع صائل على الدين والدم والأرض والعرض، ومنهج تبرير تلوني في واقع حرب وجودية على الذات والمصطلحات، وفي ذلك يقول الشوكاني رحمه الله: «والمتعصِّب وإن كان بصره صحيحًا؛ فبصيرتُه عمياء، وأُذُنُه عن سماع الحق صمَّاء، يدفع الحق وهو يظُنُّ أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه وجهلًا بما أوجبه الله تعالى عليه من النظر الصحيح، وتلقِّي ما جاء به الكتاب الكريم والسنة المطهَّرة بالإذعان والتسليم، وما أقلَّ المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع! فإنه صار بها باب الحـق مرتجًّا، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية منه».

هذا، ولما كان للعلماء الربانيين وطلبة العلم الراسخين الدور الأبرز في صيانة العلم من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وحفظه من العبث التصوري والتشويه السلوكي لأهل الإفراط والتفريط وأدعياء العلم، كان سعي الأحزاب (الجماعات) حثيثا لإيجاد مرجعيات شرعية حزبية على مقاس اجتهاداتها السياسية الأمر الذي نتج عنه فقه انتقائي تلفيقي ومنهج تبريري تلوني، ساهم بشكل كبير في تدعيم واستمرار قوقعة الوهم الحزبية، كما نتج عنه تكريس إرجاء حركي يحيل الوعي في حال وجوده وعيا سلبيا وظيفيا يؤدي دوره في استمرار القوقعة وإطالة عمرها.

جملة ما سبق رسخ حزبية مقيتة في نفوس القادة والأتباع ومتصدري الفتوى والتوجيه، نتج عنها: احتكار الحق، واختزال الإسلام في منهج الجماعة واجتهاداتها، والأمة في أتباع الجماعة وأنصارها، كما نتج عن ذلك غياب المصداقية وفقدان الثقة وتناقض الفتاوى.

* هذا وإن التعاطي السني مع آفة التحزب وظاهرة قوقعة الوهم يكون عبر:

– التربية الإيمانية التي تعين على نبذ الهوى والتجرد لله، كما أنها ترسخ في نفوس القادة والأتباع التعصب للحق وليس للأحزاب (الجماعات).

– صيانة أهل العلم أنفسهم من آفة التحزب التي تسقطهم وتفقدهم دورهم الهام في صيانة العلم والمفاهيم السنية من ناحية، ودورهم البارز في الخلافات البينية وبيان الحق فيها من ناحية ثانية، وحتى تكون مقاربات أهل العلم والفتوى موفقة ومتوازنة لا بد من: كسر قوقعة الوهم الحزبية، وتوسيع مصادر التلقي، والإلمام بحقائق الوقائع والنوازل، والتريث وعدم الاستعجال، والحرص على عدم إعطاء أحكام مطلقة، يقول ابن تيمية رحمه الله: «إنَّ أهلَ الحقِّ والسنّةِ لا يكونُ متبوعهُم إلا رسوُل الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطقُ عن الهوى، فهو الذي يجبُ تصديقُه في كلِّ ما أخبر، وطاعتُه في كلِّ ما أمر، وليست هذه المنزلةُ لغيره من الأئمة، فمن جعل شخصاً غيرَ رسول الله، مَنْ أحبَّهُ ووافقهُ كانَ من أهل السنّة، ومن خالفه كانَ من أهل البدعة، كانَ من أهل البدع والضلال والفرقِ…، وبهذا يتبينُ أن أحقَّ الناس بأن تكون هي الفرقةُ الناجيةُ (أهل الحديثِ والسنّةِ) الذين ليس لهم متبوعٌ يتعصَّبون له إلا رسولُ الله، وهم أعلمُ الناس بأقواله وأحواله».

* وفي ضوء ما سبق تتضح الحقائق الآتية:

– الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والجماعات والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية.

– آفة التحزب وظاهرة قوقعة الوهم الحزبية نموذج من نماذج الواقع الجبري التي ابتليت بها غالب جماعات الإسلام الحركي، ويتجلى باحتكار الحق، ودعاوى الوعي ورشد الاختيارات والاجتهادات، وتضخيم الإنجازات، وتقزيم الطامات من الإخفاقات بحق الحزب (الجماعة) ونسبة الضد بحق الخصوم، في صورة تطغى فيها نظرية الحزب الواحد في ساحة دفع صائل على الدين والدم والأرض والعرض، ومنهج تبرير تلوني في واقع حرب وجودية على الذات والمصطلحات.

– التعاطي السني مع آفة التحزب وظاهرة قوقعة الوهم يكون عبر:

أ – التربية الإيمانية التي تعين على نبذ الهوى والتجرد لله، كما أنها ترسخ في نفوس القادة والأتباع التعصب للحق وليس للأحزاب (الجماعات).

ب – صيانة أهل العلم أنفسهم من آفة التحزب التي تسقطهم وتفقدهم دورهم الهام في صيانة العلم والمفاهيم السنية من ناحية، ودورهم البارز في الخلافات البينية وبيان الحق فيها من ناحية ثانية.

 

والحمد لله رب العالمين.

بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ

Exit mobile version