الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن الحروبَ تشتملُ على معارك وجولاتٍ، ليس كلها كبيرٌ فاصلٌ، فالمعارك الفاصلة تؤجل من قبل كل الأطراف غالباً، إلا الطرفِ الذي استعد لها ويريد اقتناص الفرصة، أو الطرفِ الأرعنِ الذي لا يحسب حساب العواقب، وقبل المعارك الفاصلة الآجلة معاركُ محدودةٌ عاجلةٌ، تمهِّد لها، وتكون بسبب الاحتكاك الفعلي بين القوى المتصارعة، أو الاستفزاز لجس النبض واختبار القدرات.
بعد سقوط رأس النظام المجرم في سوريا وبقاء بعض أذرعه نفخ يهودُ الصهيونية بوق الخطر، وصاروا يتوغَّلون في بلداتٍ ومناطقَ سوريةٍ ليلَ نهار، بقصد السيطرة التدريجية على مواقعَ حاكمةٍ، والاستفزاز لتبرير الاعتداء والاحتلال أكثر وأكثر، كما حاولوا استغلال الطوائف الدينية والعرقية، بدعم ميليشياتٍ مسلحةٍ درزيةٍ باسم المجلس العسكري للسويداء، وميليشيا قسد القابعة شرق الفرات، لإنشاء حلف أقلياتٍ ضد الأكثرية المسلمة كما وصف وزير الخارجية الصهيوني جدعون ساعر.
الكل يعلم أن المواجهة المصيرية الحتمية بين يهود والمسلمين قادمةٌ لا محالة، لكنها أُجِّلت كثيراً باستخدام أنظمةٍ عميلةٍ مهمتها ضبط وكبت الشعوب، ومنعها من تحرير مقدساتها ومناصرةِ أهل البلاد المحتلة، لكن بعد انهيار النظام النصيري الذي كان يقيد الشعب السوري، فزع الصهاينة إلى العمل لفرض واقعٍ يحمي كيانهم المحتل، من خلال إضعاف أي سلطة تحكم دمشق، وتقييدها بشروطٍ صارمة لمصلحة الاحتلال، أو الاستمرار في التوغل وزعزعة الاستقرار.
هذا التحدي الصهيوني يصطدم بشعبٍ لم يتحرر من النظام المجرم فقط، بل تمرَّس في الحرب، وتخضرم في التجارب، وخسر الكثير مما يخشى الشعب المرفه أن يخسره، فأصبح مستعداً دائماً للمعركة العاجلة التي تنشب عند كل اعتداء من الصهاينة، هذا ريثما تُفرض المعركة الكبرى الآجلة، التي ربما يحُلُّ أجلها في أي وقتٍ رغم التأجيل، لسبب من الأسباب يقدره الله.
لهذا المثال ولغيره أمر الله عز وجل بالإعداد، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]، وإن الإعداد للمعارك العاجلة يختلف عن الإعداد للمعركة الفاصلة الآجلة، فمن الحكمة ألا يُستَفزَّ المسلمون في الشام ليدخلوا في معركةٍ غير محدودةٍ لم يعدوا لها، بينما فلول النظام ما زالت منتشرةً، وقسد بكامل قوتها ودعمها الدولي، والمجلس العسكري الدرزي على مقربةٍ، والقواعد المعادية في كل دول المنطقة، والحكمة ذاتها تقضي برد عدوان العدوِّ المحتل وردعه ليكفَّ عن تحركاته ومحاولاته داخل سوريا، والحكمة تقضي بالاستمرار في تهيئة الظروف وتنحية الأعداء المتألبين، خاصة الذين يتخذون كأدواتٍ وخناجر غدرٍ.
ونعم إن دماء أهل غزة غاليةٌ وتكافؤ الدم السوري، لكن المعركة التي تتطلبها نصرة غزة تحتاج إلى تنظيفٍ ذاتي، وإعدادٍ قوي، وحشدٍ إسلاميٍ عالمي، وترتيبٍ للأولويات، واختيارٍ للأوقات، تجنباً للخذلان واللوم، وفي ذلك فتنةٌ يجب درؤها، حتى يأتي وقت المواجهة الفاصلة، وقد يأتي بغتةً، أو تُفرض المواجهة بالقدر رغماً، فيستعمل المسلمون ما استطاعوا من حصَّلوا أسباب متوكلين على رب الأرباب، وإن في القتال كراهةً لكنه مكتوبٌ، وفيه خير الأمة إن كان جهادها في سبيل الله، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وإن الله يختار لعباده المخلصين المعركة التي تعود عليهم بخيرهم، يختار زمانها ومكانها وكيفها، وأعظم خيرها حياة المؤمنين بدينهم، وهلاك الكافرين والمنافقين بعد بيان باطلهم واستحقاق زوالهم في أعينهم وأعين غيره، قال الله تعالى عن الغزوةِ المثالِ الأبرزِ في تاريخ الأمة، غزوة بدر الكبرى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
وإن أول مراحل النصر توطينُ النفس على حتمية المواجهة الفاصلة والمعركة الآجلة، وعدمُ التقصير في خوض المعارك العاجلة، فمن جَبُنَ عن خوض الصغيرة العاجلة فهو عن الكبرى الآجلة أجبن، ومن جَبُنَ عن جهاد الدفع عن نفسه، فهو عن جهاد الدفع عن إخوانه أجبن، ومن جَبُنَ عن جهاد الدفع عامةً، فهو عن جهاد الطلب أجبن، ولا يُعتذر للتقصير بعذرٍ، ولا يستأذن المجاهد إذا وجب الجهاد، قال الله تعالى: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:44-46]
فأوجب الواجبات اليوم الإعداد والتهيؤ الخاص في المنطقة الأقرب للعدو، لخوض المعارك العاجلة، وذلك يتطلب الدعم والتأييد المستمر من عامة المسلمين للمجاهدين المرابطين، سواءً كان هؤلاء المجاهدون في غزة أو درعا أو غيرها، والإعداد والتهيؤ العام ليقوم المسلمون بحق المواجهة الكبرى الفاصلة في حينها، والعلامات دلت على اقتراب ذلك الحين.
هذا، والله أعلم، ونسأله تعالى أن ينصرنا على قتلة الأنبياء، أعداء الدين، المتجبرين على المستضعفين، والحمد لله رب العالمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ
لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا أو قم بزيارة قناتنا على تطبيق التليجرام بالضغط هنا