الأستاذ: أبو يحيى الشامي
عندما يفكر المرء في أسمى مصالحه وأدومها، ويقدمها على ما سواها من المصالح الدَّنِيَّة المؤقتة وغير المضمونة؛ يسمو بنفسه في الدنيا بالتأكيد، فإن صلحت النية يسمو في الآخرة أيضاً.
ومن المؤكد مراراً وتكراراً وبالملاحظة والتجربة والخبر، أن المصالح المعنوية أسمى وأعلى من المصالح المادية، فهي بميزان الفطرة تأتي بالحمد والذكر الحسن على الأقل، وهي بميزان الدين تأتي بالفوز في الامتحان الأعظم ونيل درجة من درجات النعيم المقيم، فمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!، لا يفعل هذا إلا خاسر.
كما أن المصالح المعنوية لا تخلو من مصالحَ ماديةٍ عامةٍ ودائمةٍ تعود على المرء وعلى غيره بالنفع، فالوفاء بالعهد مثلاً مبدأٌ اجتماعيٌّ وربما يكون دينياً يصلح التعاملات ويثبتها، ويؤدي إلى استقرار ينفع كلَّ أو جلَّ أبناء المجتمع المتحلي بهذا المبدأ المحقق لهذه المصلحة، فالذي يفي بالعهد محمودٌ حقق مصلحة الثناء الحسن وربما الأجرَ والثواب، وحقق مع غيره مصلحة استقرار المعاملات وأمانها، وقس على هذا الكثير.
قامت الثورة السورية بعد صبرٍ ممزوجٍ بالقهر، وبعد انتظارٍ طويلٍ لبشائر انتصارٍ، فالممكن الذي ظن الكثيرون أنه مستحيلٌ تبين أنه ممكنٌ بالدليل، فما قصر من وطن نفسه للنهوض في هذه الساعة منطلقاً من مبادئ الإسلام الشرعية أو من مبادئ الحرية والكرامة والعدالة المجردة، وهبَّ من دفعته الحمية الدينية أو الفطرية اللحظية لنصرة نفسه والمظلومين، وتحرك أصحاب المصالح المادية الدنية بعكس هذا الاتجاه، أو وقفوا يتأهبون للوثوب بالاتجاه الذي يحقق مصالحهم الضيقة.
ثم عندما اشتد عود الثورة وبدأت تظهر علامات الطريق وثماره الأولية والمؤدى المتوقع، بدأ الذين التزموا مبدأ المصلحة بالالتحاق بالثورة لتحقيق مصالحهم فقط وليس إلا، وإنهم وإن أعلنوا المبادئ العَلِيَّة وادعوا التمسك بها وخدمة مصالحها، إلا أن النية تظهر عاجلاً أو آجلاً بالاحتكاك بما يأتي مع الأيام من خير وشر، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء : 35].
كلنا تابع خط سعي الكثيرين ممن ضحوا بأنفسهم وأموالهم وأهليهم في سبيل المبادئ التي قامت لأجلها الثورة السورية، سواء كانوا يعلنون الإسلامية أم لا يعلنون، لكنهم أعلنوا الشرعية والحرية والعدالة والكرامة كمبادئ وأهداف، وضحوا في سبيلها وسعوا في مصلحتها، وفي المقابل تابعنا خط تَعْسِ الأكثرين ممن أهدروا ما ضحى به الأولون جرياً خلف المصالح الشخصية أو الحزبية، وجمعوا فأوعَوا، إن هؤلاء ممن لم يؤمنوا ساعةً من نهار أو آمنوا وارتكسوا أمام الفتن والمغريات، والعياذ بالله.
الكثير من الأسماء والمسميات، الكثير من المجموعات والجماعات والتجمعات، الكثير من الفصائل والتنظيمات، الكثير من التشكيلات، كان الهدف منها مادياً قصير المدى قزم الهم والهمة، ولدت وتقلبت وتشتتت واضمحلت وفق مبدأ المصلحة، لا مصلحة المبدأ، بل كانت المبادئ مزورة في شعارات براقة تخدم مبدأ المصلحة الشخصية والحزبية.
كثيراً ما حرض نوع من الناس بعضهم بعبارة (بنو فلان مع الثورة فكونوا كي لا يفخروا عليكم أو يكونوا أقوى منكم)، وكثيراً ما انشق مجندون وضباطٌ عن النظام خوفاً من التكاليف العسكرية والموت المحدق، ليدخلوا الثورة طمعاً في الرتب والامتيازات، وكثيراً ما استغل تجار الحروب في الخارج والداخل الثورة لأجل مصالحهم لا يعبأون بغير هذا المبدأ، ولا أعمم إنما أذكر كثرةً يعرفها القاصي والداني، والناس في هذا صنفان منذ بداية الاستخلاف، والمسلمون أيضاً في هذا صنفان، قال الله تعالى: {… حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ …} [آل عمران : 152].
إلى الآن أتحدث عن المبادئ المجردة التي تحقق مصالح الناس العامة في الدنيا قبل الآخرة، هذا لو قاموا برعايتها حق رعايتها وسعوا في مصالحها، وهذه المبادئ في حال تحققت تأتي بمصالح الكافر والمؤمن وفق النواميس والسنن القدرية، ليس وفق ميزان التفاضل الديني، وهذا يُبقي على الروم -مثلاً- إلى قيام الساعة وهم أكثر الناس وقتها، فهم حريصون على المصالح العامة الدائمة ما يقيم دولتهم ويبقي عليهم، هذا مذكورٌ في الحديث الصحيح، وفي هذا السياق قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : “إنَّ الله يقيم الدَّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدَّولة الظَّالمة، وإن كانت مسلمة” (مجموع الفتاوى 28 / 146).
مبدأ المصلحة الشخصية والحزبية الدَّنِيَّة المؤقتة جعل الكثير من أدعياء الثورة السورية يتقدمون ليقدموا التنازلات تلو التنازلات إرضاء للشرق والغرب، وهم يدعون زوراً تحقيق مصالح الثورة والشعب الثائر!، وإن هذا كان بثمن بخسٍ، وكانوا في الأمانة التي تقلدوها من الزاهدين، وهنا التقى هؤلاء بمصالحهم مع الدول بمصالحها، فوقَّعوا على الكثير الذي تشاء، وأعطتهم القليل الذي يشاؤون، ثم ازدادت الذرائع والدوافع إلى التَّنَكُّبِ والخيانة في متواليةٍ ودوامةٍ كبيرةٍ.
في تحقيق المصالح قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص : 77]، ربما لا يهتم الكثيرون لمعنى هذه الآية فيعمدون إلى الدنيا يطلبونها بأي ثمن، وينسون الدين والآخرة من حساباتهم، وإن هذا لأمر جللٌ وخطبٌ عظيمٌ، والأدهى والأعظم أن تستغل المبادئ الدينية فترفع كشعاراتٍ خدَّاعةٍ لخدمة مبدأ المصلحة الذي اتخذته بعض الجهات التي ابتليت بها الثورة السورية وجعلته ديناً تدين به، لتحقيق مصلحةٍ لا تخضع لتقويمٍ ولا تنضبط بضوابط، إنها لطامةٌ أكبرُ وإنه لحديثٌ ذو شجون.