باحث
الحمد لله منزل القرآن، بأفصح لسان وأجلّ بيان، على النبيّ العدنان محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعد:
تفضّل الله تعالى على البشرية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وزاد عليها تفضلاً أن أنزل عليه القرآن ليكون للعالمين نذيراً وبشيراً، وما إن تنزلت الآيات حتى اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم دستوراً ومنهجاً، فكل نازلة أو حدث أو خطب يعرض عليه صلى الله عليه وسلم مرده عنده إلى كتاب الله تعالى، وهذا واضح في كل سيرته من بدء النبوة إلى وفاته، وأبسط مثال عندما سأله الصحابة عن آية استشكل فهمها عليهم، وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: «ليس بذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان»، فتلى عليهم {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} رواه البخاري ومسلم، ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم عن الشروط التي تكون في العقود: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شَرْطٍ»، وقسْ على ذلك كل نازلةٍ أو عارضةٍ، لذلك كان من وصاياه الجامعة قوله: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَمْ تَضِلُّوا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللَّهِ».
وبذلك أسس النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً يصح أن نطلق عليه مصطلح مركزية القرآن، خلاصة هذا المنهج رد كل شيءٍ إلى القرآن الكريم لمعرفة حكم الله تعالى فيه، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اقتفى أثرهم، فعلا شأنهم وزكا علمهم وقهروا عدوهم وانحلت عقدهم، وفتحت لهم البلاد وقلوب العباد، إذ إن القرآن ما ترك شيئاً إلا وله فيه مقالٌ ظاهرٌ صريحٌ أو باطنٌ خفيٌ يحتاج إلى إعمال فكرٍ وصفاء ذهنٍ، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]، قال صاحب تفسير المنار: “أي ما تركنا في الكتاب شيئًا ما من ضروب الهداية التي ترسل الرسل لأجلها إلا وقد بيناه فيه، وهي أصول الدين وقواعده وأحكامه وحكمها، والإرشاد إلى استعمال القوى البدنية والعقلية في الاستفادة من تسخير الله كل شيء للإنسان، ومراعاة سننه تعالى في خلقه التي يتم بها الكمال المدني والعقلي، فالقرآن قد بين ذلك كله بالنص أو الفحوى”.
ومع كثرة النوازل وتشابك الأحداث وتراكم الفتن فإن المسلمين اليوم بحاجةٍ ملحّةٍ إلى مرتكزٍ يرتكزون عليه، وميزانٍ يردون إليه الأحداث والنوازل فيعطيهم الوزن الصحيح، لأجل ذلك برزت جهود العلماء المعاصرين والباحثين والدارسين في تفسير القرآن الكريم تفسيراً موضوعياً، والتفسير الموضوعي هو لون خاص بعلم التفسير لم يكن معروفاً عند أصحاب القرون الأولى، ويقصد به “جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد، لفظاً أو حكماً، وتفسيرها حسب المقاصد القرآنية”، وقد عَرَّف الدكتور مصطفى مسلم هذا النوع من التفسير بأنه “علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر”.
وباختصار؛ فإن هذا النوع من التفسير له أسسٌ وقواعد ومنهجيةٌ وطريقةٌ يلتزم بها الباحث، حيث يقوم بجمع الآيات التي تبحث في موضوع واحد، أو مصطلح واحد، من مختلف السور، سواء كانت هذه الآيات تتحدث عن نفس المصطلح أو تتحدث عن مصطلحات وألفاظ مقاربة له، وبعد ذلك يقوم الباحث بتفسير الآيات تفسيراً موضوعياً حسب المقاصد القرآنية، ليحقق مقاصد القرآن وأهدافه الأساسية، من خلال بحثه الموضوعي في تلك الآيات، فهو بعبارة أخرى رد الأحداث والنوازل والقضايا التي تعصف بأمة الإسلام إلى مركزية القرآن.
من أسباب ظهور هذا النوع من التفسير:
أولاً: الطبيعة العامة للعصر الأخير؛ حيث شهد تحكم الجاهلية في العالم، وانتفاش الكفر وانتشار الأفكار والآراء الجاهلية الكافرة، ووصول هذا الأفكار إلى عقول ومجتمعات المسلمين، وقيام الكفار بتصعيد الغزو الفكري ضد المسلمين.
ثانياً: الوضع العام المحزن للمسلمين؛ حيث شهد العصر الحديث انحسار الإسلام عن واقع المسلمين، إذ قُضي على الخلافة الإسلامية، وأُقصي الإسلام عن الحكم والتوجيه، ونشأت مناهج الحياة في بلاد المسلمين على أسس غير إسلامية، أصبح غريباً في مؤسسات ومجتمعات المسلمين.
ثالثاً: مواكبة التطور العلمي المعرفي؛ حيث شهد العصر الحديث توجه العلماء والباحثين إلى مزيد من التخصص الدقيق، والتعمق المنهجي العلمي.
أبرز سمات التفسير الموضوعي:
أولاً: يلتزم فيه المفسر موضوعاً لا موضعاً بعينه من القرآن؛ فيجمع الآيات الكريمة من مواضعها ويقيم منها بناء متكاملاً، يقرر موقف القرآن من قضية ما، على خلاف الأنواع الأخرى للتفسير التي يقف فيها المفسر على كل آية بعينها من أول القرآن إلى آخره ويفسرها تفسيراً تحليلياً.
ثانياً: منطلق التفسير الموضوعي الواقع الذي يعيش فيه الباحث؛ فأدرك حاجات الأمة والإنسانية في عصره على مختلف جوانبها، الفكرية والنظرية والعلمية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك.
ثالثاً: يجلس الباحث في التفسير الموضوعي أمام القرآن جلسة إيجابية فاعلة، يحاور القرآن ويستنطقه ويسأله؛ ويطلب من القرآن رأيه الإيجابي الصادق الصائب في القضايا والموضوعات التي يعيشها الناس في واقعه وعصره، ويأخذ من القرآن حقائقه اليقينية القاطعة.
رابعاً: الباحث في التفسير الموضوعي يحسن الصلة بين الواقع وبين القرآن؛ ويدرك إيحاءات القرآن الواقعية، ويُصلح الواقع على هدي القرآن، فهو يبدأ من حسن تشخيص حاجات الواقع، وينتهي إلى حسن تقديم العلاج القرآني لهذا الواقع.
خامساً: الباحث في التفسير الموضوعي يفسر الآيات وجملها وتراكيبها ويستخرج دلالاتها التفصيلية الجزئية؛ وينسق بينها ويستخرج من مجموعها نظرة قرآنية واقعية متكاملة.
وتكمن أهمية التفسير الموضوعي بأنه:
أولاً: من العوامل الأساسية في حل مشكلات المسلمين المعاصرة، وتقديم الحلول لها على أساس القرآن.
ثانياً: وسيلة ضرورية منهجية لتقديم القرآن تقديماً علمياً منهجياً لإنسان هذا العصر، وإبراز عظمة هذا القرآن، وحسن عرض مبادئه وموضوعاته.
ثالثاً: كفيل ببيان مدى حاجة الإنسان المعاصر إلى الدين عموماً، وإلى الإسلام والقرآن خصوصاً، وإقناعه بأن القرآن هو الذي يحقق له حاجاته ومتطلباته.
رابعاً: يقف العلماء والباحثون أمام الأعداء، ويفندون أفكارهم الجاهلية، وذلك عن طريق التفسير الموضوعي.
خامساً: تُعرَض أبعاد ومجالات وآفاق جديدة لموضوعات القرآن، عن طريق التفسير الموضوعي، وهذه الأبعاد الجديدة لموضوعات القرآن تزيد إقبال المسلمين على القرآن، وتوثق صلتهم به.
من الأبحاث التي كتبت في التفسير الموضوعي:
• (الصبر في القرآن الكريم) للدكتور يوسف القرضاوي.
• (الضالون كما يصورهم القرآن) للأستاذ عبد المتعال الجبري.
• (ظهرة النفاق وخبائث المنافقين) للأستاذ عبد الرحمن حبنّكة.
• (الوسطية في ضوء القرآن) للدكتور ناصر العمر.
وغيرها الكثير من الرسائل العلمية، ومع ذلك فإن هذا النوع من التفسير لم يأخذ حقه من البحث والتأليف، وتظهر ثمرة التفسير الموضوعي بالتطبيق العملي، وهذا ما سأعمل عليه بإذن الله تعالى، فبعد هذه النبذة التعريفية اليسيرة بالتفسير الموضوعي سأسلط الضوء على قضيةٍ معينةٍ أو نازلةٍ بالأمة ووضعها في ميزان القرآن للنظر في موقف القرآن منها، سائلاً الله تعالى التوفيق والقبول.
ولمزيد معرفة بالتفسير الموضوعي يمكن الرجوع إلى هذه المؤلفات:
• التفسير الموضوعي بين النظرية والتطبيق للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي.
• مباحث في التفسير الموضوعي للدكتور مصطفى مسلم.
• المدخل إلى التفسير الموضوعي للدكتور عبد الستار فتح الله السعيد.
الحمد لله رب العالمين.