الأستاذ: غياث الحلبي
دخل أبو تحسين المملكة وأخذ يتجول في أرجائها مفكرا بالطريقة المثلى للوصول إلى الملك الجديد والاستحواذ على ثقته ونيل مكانة مرموقة في بلاطه، وأثناء ذلك علم أن الملك سيلقي اليوم خطابا للشعب بمناسبة تنصيبه ملكا على البلاد.
فقال لنفسه: البدء سيكون من هنا، لأستمع إلى الخطاب ولتنطلق مركبة المجد لتوصلني إلى القمة.
في الساحة العامة في عاصمة المملكة احتشد الآلاف مصغين السمع إلى الخطاب الأول لمليكهم الجديد.
وقبل أن يبدأ الملك خطبته صاح أبو تحسين بأعلى صوته: “يعيش الملك، يعيش القائد، يعيش الزعيم” وأتبع ذلك بصفير وتصفيق، فتجاوبت غوغاء الجماهير معه، فيما رمقه من حوله من العقلاء بنظرة ازدراء واحتقار.
تحدث الملك الجديد عن أبيه الراحل ومنجزاته، وتعهد بالسير على طريقه ومتابعة مسيرة النهوض والتطوير وإحقاق الحق وإرساء الأمن واستقلال القضاء ونشر ألوية السلام في أرجاء المملكة وإيصال الرخاء إلى ما وراء الجبال ومحاربة الفساد والفجور، وختم خطبته قائلا: ستعمل المِنْكسَة على إزالة جميع العقبات ورميها في أودية النسيان إلى الأبد.
وفهم جميع المستمعين أن قصد الملك أن يقول المكنسة، لكنها زلة لسان دون قصد، أما أبو تحسين فرأى في هذه الزلة صيدا ثمينا لا ينبغي التفريط فيه.
انصرف مسرعا فدبج مقالا عنوانه بـ “زلة لسان أم فتح وتبيان” وكتب تحت العنوان: ألقى مليكنا المعظم خطابا تاريخيا عز نظيره وقل مثيله، وتحليله والوقوف على جليل معانيه وجميل مبانيه يحتاج مجلدات تفنى دون تسطيرها الأعمار؛ لما حوى من غرر الفوائد ونفائس الفرائد، غير أني لا أريد هنا سوى الوقوف على لفظة واحدة فقط ظنها قصار النظر زلة لسان من القائد الأوحد والزعيم الأمجد، وهي قوله “المنكسة” ولم يعلموا أن ما ظنوه صوابا هو اللحن الذي لم ينتبه له أجلاء علماء اللغة وفطاحل العربية وكان كشف هذا اللحن ذخرا ادخره الله لمولانا الأجل دام ظله الوارف، وبيان ذلك أن كل شيء يكون رأسه إلى الأعلى ورجلاه إلى أسفل، فإذا جعل رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى قيل نكس، وهذا وصف دقيق لتلك الآلة التي تسمونها مكنسة، فرأسها للأسفل ورجلها للأعلى فالصواب منكسة، بل وهذا ما تفعله المنكسة كذلك فإنها تقلب ذرات الغبار أثناء جرفها فتنكسها قبل أن تكنسها، ولذلك فالصواب الذي لا تحتمل اللغة سواه -وإن غاب عن علماء العربية قاطبة- هو المنكسة وليست المكنسة.
ولست أشك أن سيبويه وشيخه الخليل والأصمعي والأخفش وثعلب وقطرب والكسائي وابن دريد وأضرابهم لو سمعوا خطاب مليكنا لأذعنوا له وقبَّلوا بين عينيه ثم ثنوا الركب بين يديه ليعلمهم مما ادخره الله له من الكنوز والذخائر التي غابت عن الأولين.
ذهب أبو تحسين بخطابه إلى أكبر دار للنشر في العاصمة، وهناك قابل رئيسها وطلب إليه أن يدفع مقاله إلى النساخ لينسخوا منه مئات النسخ لتوزع وتنشر في أصقاع المملكة.
تناول رئيس الدار المقال فقرأه، ثم طلب من أبي تحسين الانتظار قليلا، واختفى وراء باب غرفته حيث يجلس المدقق اللغوي للدار، فدفع المقال له ليقرأه، فلما جالت عيناه بين سطوره رفع بصره إلى رئيس الدار، وقال له: أجاد أنت في نشر هذا؟
– الجد كله.
– ولكنه ضرب من الهذيان والعبث والنفاق الممجوج.
– أعلم هذا.
– عجبا، فلم تنشره إذن؟
– أبتغي ما يبتغي كاتبه.
– ماذا تقصد؟
– أتظن أن كاتبه مقتنع بما فيه ويعتقده؟
– بالطبع لا.
– فلم كتبه إذن؟
– لأنه يريد التقرب إلى الملك والحصول على جائزة منه.
– وهذا ما أريده أيضا، ستصلنا مكافأة مالية ضخمة من الملك، وسيدوي خبر هذا المقال وكاتبه وناشره في المملكة ونحصل على دعاية مجانية.
– ولكن ذلك يتعارض مع مبادئنا، فشعار الدار “الحقيقة العلمية والمصداقية والأمانة”.
– إن المبادئ والشعارات عندي وسائل لتحقيق المقصود والمصالح، ومقصودنا عز الملك والمملكة وعز أنفسنا، وهذه مقاصد تحققها المقالة فالغاية تبرر الوسيلة والمصالح أهم من الوسائل.
والآن دقق المقال ثم ادفعه إلى النساخ وأشرف عليهم وكن مستعدا لاستقبال صلات الملك وجوائزه.
في اليوم التالي عُلق المقال في الساحات العامة مذيلا باسم كاتبه والدار التي نشرته.
فأما الغوغاء والحمقى والوصوليون والنفعيون فقد طاروا به فرحا، وأما العقلاء وأصحاب البصائر وأرباب الحكمة فقد عدوه مصيبة وباب فتنة فُتح، وأخذت الألسن تلوك الخبر حتى وصل إلى الملك ووزيره، فلما قرأ الملك المقال امتلأ إهابه كبرا، فالتفت إلى الوزير مزهوا، وقال:
– ما رأيك أيها الوزير؟
– احذر أيها الملك هذا منافق يريد التزلف إليك بالكذب والرياء ليتسلط على رقاب العباد باسمك.
– ربما أسأت الظن بالرجل.
– كلا يا مولاي، فأنا أخبر الناس بهذا الصنف من الناس، هؤلاء لا يهتمون إلا بمصالحهم، ولذلك لا يتحاشون من القول وضده ونقيضه، فهم كالحرباء كل حين بلون، وأرى يا مولاي أن تعرض عنه ولا تقم له وزنا، فإنك إن التفت إليه وأكرمته تجمع حولك أمثاله وانفض العاملون المخلصون، وفي ذلك خراب المملكة لا سمح الله.
– أخشى أنك حسدت الكاتب ودبت في قلبك الغيرة منه، فاتهمته في نيته دون أن تلتقي به وقبل أن تسمع دفاعه.
– المعذرة يا مولاي على ماذا أحسده؟! فهل في الشر حسد؟!
– أنا ملك منصف سأسمع منه وأقرر بناء على ما يظهر لي، واستدعى الملك أبا تحسين، وسأله عن أدلته على أن الصواب لفظ المنكسة.
فقال أبو تحسين: الأدلة أكثر من أن تعد؛ فهي منكوسة الشكل وعملها التنكيس، وهذا في أصل وضعها اللغوي فإن أضيف المعنى الاستعاري الذي نوهت له في خطابك العظيم والذي هو إزالة العقبات ورميها في أودية النسيان فهذا هو التنكيس بأتم صوره، فهل ستسقط العقبات في الوادي إلا منكسة؟!
أعجب الملك بكلام أبي تحسين وأصدر مرسوما ملكيا بتعيين أبي تحسين متحدثا رسميا باسم القصر الملكي واعتماد دار النشر التي نشرت المقال دارا للمنشورات الملكية.
انهمك الملك في ملذاته وأهمل أمر رعيته وأخذ بتقليد المناصب لمن كان من أمثال أبي تحسين، وعزل كل من يجرؤ على توجيه نصيحة له تصريحا أو تعريضا باستثناء الوزير فقد كان لا يزال يحفظ فيه شيئا من وصية والده، واتبع المتسلقون الذين ولاهم المناصب سيرة الملك في الانهماك في الملاذ الشخصية، وكثر الفساد والرشاوى والضرائب وعم الفقر والسرقة والاحتيال، وحرصا من الملك وحاشيته على استيفاء كل لذة وشهوة فقد قللوا ميزانيات الوزارات التي تخدم الرعية فانتشرت الأمراض والأوبئة في المملكة وسقط كثيرون ضحية المرض والإهمال الصحي ونقص الأدوية ورداءة الخدمة في المستشفيات، فارتفعت أصوات الناس بالسخط ووجه بعضهم اللوم للملك وحاشيته.
فكتب أبو تحسين بيانا باسم القصر الملكي ونشرته دار النشر الملكية جاء فيه: وجه بعض المغرضين وعملاء العدو أصابع اللوم إلى القصر الملكي بسبب تفشي الأمراض وكثرة الوفيات، ونحن إن أحسنا الظن بهؤلاء لوجدنا كلامهم نابعا من عقيدة فاسدة ويكأنهم يظنون أن الشفاء بيد الملك ثم يبخل به! فأين هم من قول الله: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) على أننا نخشى أن يكون غرض هؤلاء القوم هو الطعن بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد تفشى طاعون عمواس في عهده ومات فيه خيار الصحابة كمعاذ بن جبل وأمين هذه الأمة أبي عبيدة ابن الجراح، لذلك يجب على الأمة أن تقف في وجه هؤلاء الطاعنين الذين يريدون هدم الدين وتعطيل الشرائع وتمكين العدو من مملكتنا الأبية.
وكان واضحا أن هذا البيان ليس إلا تمهيدا لمعاقبة اللائمين والزج بهم في السجون ليكونوا عبرة لغيرهم فلا يجرؤ ناصح على رفع عقيرته بعدها أبدا وإلا وجد في غياهب الظالمين متسعا له على شدة ضيقها.
انطلقت قطعان الشرطة تلقي القبض على كل من وجه كلمة يشم منها رائحة اعتراض وتسخط على القصر الملكي، وغصت سجون المملكة بالبرآء بعد أن كانت محرمة عليهم، ودخل الوزير الناصح على الملك فزعا، فقال له:
– ما الذي يحدث أيها الملك؟ ولماذا يساق الناس إلى السجون؟
– لا شيء يثير فزعا أيها الوزير، هؤلاء مجموعة من المشغبين ويجب أن ينالوا عقابهم.
– ولكن أيها الملك الوضع مؤسف فعلا في المملكة ويجب أن يتدارك بالإصلاح وليس بالعسف والقمع.
– ويحك، وهل هناك إصلاح فوق الوقوف في وجه المشغبين المفسدين؟
– أيها الملك لقد غرك أبو تحسين وأضرابه وزينوا لك كل باطل ومنكر وجرؤوك على ما كان آباؤك لا يجرؤون عليه، وإني وإن كنت أعلم أن كلامي يسخطك علي ويغضبك مني غير أني لن أضيع حق أبيك.
اسمع أيها الملك مهما اجترأت فاجتنب ظلم الناس بالسجن والضرب وأخذ الأموال، فإن فعلت واجترأت على ذلك فلا تجترئ على وجهاء الرعية وأسيادهم وعلمائهم، فإن أبيت وفعلت فإياك أن تنسب ما تفعله من المظالم إلى الشرع، فإن الخراب أسرع إلى الدولة الظالمة من السيل إلى منتهاه، وهو أسرع إلى الدولة التي تنسب ظلمها إلى الشرع من وميض البرق، إن الظالم يجني على حياة الأمة، ومن ينسب ظلمه إلى الشرع يجني على حياة الأمة ودينها.
– لقد حق بك ما ظننته فيك، لقد أهلكك حسدك لأبي تحسين وحقدك عليه حتى بلغ بك الأمر أن تطعن في الملك والمملكة إشباعا لنفسك المريضة، لقد غرك حلمي وإكرامي لك أيها الوزير رغم ما رأيته منك كثيرا من إفساد وطعن، ولكن من الآن فصاعدا سيكون لي منك شأن آخر، أنت الآن لم تعد وزيرا فالزم دارك ولا تريني وجهك المشؤوم مجددا.
– هذه السياسة ستوردك المهالك أيها الملك، وأنا أيها الملك رغم حبي للملكة إلا أني أبرأ من تلك المظالم.
– حسنا، لا تلزم دارك، أيها الحرس خذوه إلى السجن وضموه إلى رفاقه المجرمين.
وساق الحرس الوزير إلى السجن، وأصدر الملك قرارا بتعيين أبي تحسين وزيرا بدلا عنه ليحسن له كل أمر يهواه مهما كان قبيحا.
وتسلم أبو تحسين منصب الوزارة وأقسم يمين الطاعة والإخلاص للملك، فلما انتهت المراسم وخلا بنفسه تنفس الصعداء، وقال:
– قاتل الله إبليس ما أخبره بطبائع بني آدم وسبل إغوائهم، إني مدين له بكل ما أنا فيه من النعيم والنفوذ والمناصب والبذخ والترف.
عمت الفوضى في البلاد وساد الهرج والمرض، ورفع بعض وجهاء المجتمع عريضة إلى الملك يشتكون له من سوء الأحوال، وذكَّروه فيها بوعوده التي قطعها على نفسه في الخطاب الأول الذي ألقاه بعد تنصيبه ملكا، والذي فيه نشر ألوية السلام في أرجاء المملكة وإيصال الرخاء إلى ما وراء الجبال ومحاربة الفساد والفجور.
وصلت العريضة إلى يد الملك، فقرأها وضاق ذرعا بها، فاستدعى أبا تحسين ليستشيره أو إن شئت فقل ليطلب إليه تزيين هواه وإكساء باطله ثوب الحق.
وصل أبو تحسين فألقى التحية على الملك، ثم وقف خاشعا منكسرا ينتظر إذن الملك له بالجلوس.
– اجلس أيها الوزير واسمع ما أريد أن أقوله لك.
– أنا بأمر مليكي المعظم، وكلي آذان صاغية.
– لقد أرسل بعض الوجهاء في المملكة عريضة يشتكون فيها سوء الأوضاع ويزعمون كذبا أني لم أحقق الوعود التي قطعتها على نفسي عندما نصبت ملكا.
– تبا لهم، لا يرضيهم شيء، وأين لهم أن يجدوا ملكا كمليكنا رحمة وعلما وسياسة وفهما ورفقا بالرعية وإنصافا للمظلومين وإحقاقا للحق وإزهاقا للباطل و…
– كفى أيها الوزير، أعلم ذلك، ولكنهم قوم بهت.
– صدقت يا مليكنا، ثق أيها الملك أن التاريخ سيجعلك خامس الخلفاء الراشدين مضطرا إلى تأخير عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى المرتبة السادسة.
– حسنا أيها الوزير، خذ هذه العريضة وأجب عنها نيابة عني.
وفي اليوم التالي استيقظ الناس ليجدوا منشورات معلقة في الساحات العامة تحمل ردا على العريضة المرفوعة إلى الملك، جاء فيها:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
لا يزال بعض الئام يجحدون فضل مليكنا والجهود العظيمة التي يبذلها وأعوانه المخلصون في خدمة الشعب والارتقاء به وتحقيق السعادة والرفاهية له، ولم يعلم هؤلاء اللئام أو علموا فتجاهلوا أن الملك وأعوانه لا يكادون يعرفون للراحة مذاقا فهم في عمل دائم مستمر نومهم كإغفاء الطير، رضوا أن يبأسوا ليرتاح الشعب ويخافوا ليأمن، فماذا يريدون بعد؟
وقد تجرأ اللئام فعرَّضوا بمليكنا أنه لم يف بوعوده، وانطلاقا من مصداقيتنا وشفافيتنا سنفند دعواهم واحدة واحدة ليس لأنهم أهل أن يرد عليهم، ولكن شفقة على الشعب الحبيب أن ينخدع أحد أفراده بهرائهم وكذبهم وإفكهم.
لقد ذكروا -لا ذكرهم الله بخير- أن مليكنا وعد بنشر ألوية السلام وإيصال الرخاء إلى ما وراء الجبال ومحاربة الفساد والفجور.
فسبحان الله، ألم يسجن الملك المشغبين الذين نشروا الفوضى والإشاعات وعرضوا بالخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ بل لقد سجن مليكنا المفدى وزيره الأول الذي خدم المملكة سنين طويلة لما انجر هذا الوزير وراء المفسدين، فالحق أحق أن يتبع، ولا كبير فوق المحاسبة والمعاقبة كائنا من يكون، فهل وجدتم ملكا ينشر السلام مثل مليكنا؟
ثم نأتي إلى وعد الملك بإيصال الخير إلى ما وراء الجبال، فهل بعد جبالنا إلا الصحاري؟ ولقد عم خير مليكنا حتى الصحاري وتنعمت الأفاعي في جحورها بخير مليكنا، وما رأينا ضبا من ضباب الصحراء مات من الجوع، ولا أفعى من أفاعيها هاجر من موطنه، ولئن كان الواقع يشهد أن الصحاري في رخاء عميم فكيف بالمدن والقرى، فكفوا عنا فتنكم.
وإننا بإذن الله مستمرون في محاربة الفساد والفجور، ولو لم يكن هؤلاء الحاقدون يتتبعون الفساد والفجور لما عرفوهما، ولكن بحمد الله كُشفت خبيئتهم وفُضحت سريرتهم وجُلي للناس أمرهم ليعرفوا أنهم مفسدون فجار.
وختاما؛ فنهيب بالشعب أن يثقوا بقيادتهم الحكيمة ومليكهم الملهم، وألا يصغوا إلى أصحاب الفتن والأراجيف ومرضى القلوب.
وصعق الوجهاء كتبة العريضة وهم يقرؤون الصفات الذميمة التي لصقت بهم وعلموا والعقلاء جميعا أن هذه المملكة تنحدر انحدارا سريعا نحو الهاوية، وأنه لم يبق فيها لغير المنافقين والمتزلفين سلطان، وأصيب ملكها بجنون العظمة واستحكم به، فلم يعد يطيق سماع صوت سوى صوت التبجيل والتعظيم له.
ازداد غليان الشعب وكثرت الاعتراضات والاحتجاجات، وضاق الملك ذرعا بأبي تحسين الذي لم تستطع خطاباته إيقاف ظواهر التمرد عليه، وذات يوم قدم تلميذ جديد من تلاميذ إبليس الإنسيين إلى قصر الملك فصادف أبا تحسين وهو يقول: إن مليكنا يحب الشعب ويراعي مصالحه ويدور مع الحق حيث دار.
فرأى التلميذ الإبليسي فرصة من الحمق إضاعتها، فصرخ بأعلى صوته وقد حشد في وجهه ما استطاع من أمارات الغضب: أتقول هذا عن مليكنا؟ لقد غلطت وأخطأت وجانبت الصواب، وانحرفت عن الجادة ولم تصب في قولك من الحق مثقال ذرة، إن الحق ثابت لا يدور ومليكنا ثابت راسخ لا يدور ولا يميل يمنة ولا يسرة، فالميل هو فعل أهل الباطل المتقلبين المنتكسين.
طرب الملك لهذا اللون الجديد من النفاق، ووجد فيه فرصة للتخلص من أبي تحسين وإلصاق مصائب المملكة به، فأصدر أمرا بإقالة أبي تحسين من منصبه وتعيين هذا المنافق الجديد بدلا عنه، وأحال أبا تحسين إلى المحاكمة ليمتص بعضا من غضب الشعب الذي أوشك على الانفجار، وخرج إعلام الملك يرمي أبا تحسين بكل نقيصة وينسب إليه كل مصيبة ويحمله مسؤولية كل إخفاق ويلصق به كل خطأ وتقصير.
وساق الشرط أبا تحسين إلى السجن مقيدا بالأصفاد، فسار معهم وهو يتمتم قائلا: لقد اشتريت دنياي بديني فخسرت ديني وما ربحت دنياي، وهأنذا أساق إلى السجن محملا بأوزار كالجبال لظلمي الأبرياء نفاقا للملك، فما أغنى ذلك عني شيئا وأصابتني دعوتهم، ومن ظن أن الله لا يعجل العقوبة للظالم الباغي في الدنيا فهو واهم.
ألا ليتني عشت رجلا ولم أسفح ماء كرامتي تحت أقدام الملوك تزلفا، لقد خسرت كرامتي ورجولتي وخسرت دنياي التي سفحت لأجلها ماء كرامتي ورجولتي، فسحقا للنفاق وبعدا.
لم يزدد الوضع في المملكة مع الأيام إلا سوءا؛ اعتقالات وإعدامات وضرائب وأمراض وسرقة وفساد وكذب وغش..، حتى اشتد غليان الشعب فثار ثورة عظيمة وهجمت جموع الشعب على قصر الملك فانهارت عساكره وفر وانشق جنوده، وأمسكت الجماهير بالملك ووزيره الجديد وأحضرت أبا تحسين وحاكموهم بتهمة الخيانة والفساد، وأخرجوا الوزير الأول من السجن معززا مكرما فخرج، ومر على الملك ووزيريه وهم مقيدون بالسلاسل يرميهم صبيان البلد بالحجارة والقاذورات، فتمتم قائلا: (نَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).
انتهت.