الأستاذ: حسين أبو عمر
إثر مقتل المجاهد عبد القادر الحكيم، التابع لفصيل “جيش الأحرار” تحت التعذيب، وما ظهر على أجساد /تحدث به بعض عسكريي الهيئة المفرج عنهم فيما يعرف بقضية العمالة من ألوان التعذيب في سجون الأمنيين، خرج الناس إلى الشوارع يتظاهرون ضد الجولاني وأمنييه، مطالبين بتنحي الجولاني وكف أيدي أمنييه، ومازالت المظاهرات تزداد زخماً..
أمام نزول الناس إلى الشوارع ومطالبتهم الجولاني بالتنحي وكف أيدي أمنييه عن ظلم الناس، ظهر أناس يطرحون تساؤلات من قبيل: “ما البديل؟” و “مَن البديل؟” و “هل نعود إلى التشرذم والفصائلية” و “هل نجحتم في إنجاز أي توحد من قبل؟” و “كيف تدخلون هذه المغامرة والأعداء يتربصون بالمحرر؟”…
بداية؛ عندما تسمع هذه التساؤلات يُخيل إليك أن فتوحات الجولاني وصلت دمشق!! ما كأن أن النظام يقف على تخوم مدينة إدلب وباب الهوى!!
أو على الأقل وكأن الجولاني قد جعل من إدلب حصينة منيعة أمام أي اجتياح!! ما كأن النظام لا تفصله عن إدلب أي عوائق، سوى اتفاقيات الروس والأتراك، وأن إدلب لا تصمد أمام حملة حقيقية سوى… كحد أقصى؛ وذلك بشهادة أفضل العسكريين.
أو يُخيل إليك أن الجولاني قد أقام نموذج حكم رشيد!! بسط فيه العدل، وعمل فيه بالشورى؛ ما كأن الجولاني مضى على سنن الجبر؛ فاستفرد واستبد، وبنى نظام حكم أمني جبائي؛ غايته إخضاع الناس واستلاب أموالهم!!
أو أن الجولاني قد أنشأ نظامًا اقتصاديًا عادلًا!! ما كأننا نشهد اقتصادًا لا يختلف عن اقتصادات الأنظمة الشمولية بشيء؛ حتى تشكلت عندنا في المحرر طبقية لم نشهدها حتى في أيام النظام النصيري.. أقلية لها مطاعم فاخرة ومولات، أكثرية تعيش في مخيمات، وأن نسبة الفقر باتت على عتبة 90 بالمئة من عدد السكان في المحرر!!
قبل مناقشة سؤال “البديل” أود الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن حادثة مقتل المجاهد من جيش الأحرار تحت التعذيب لم تكن سوى المفجر الذي أظهر ما كان خامدًا تحت الرماد، ولو لم يخرج هذا الخامد في الأمس كان سيخرج اليوم، ولو لم يكن اليوم ففي الغد؛ فهذه هي سنة الله في البشر..
حقيقة، لقد ركب الجولاني كل عوامل الزوال التي ذكرها المؤرخون الباحثون في أسباب زوال الأمم والدول، بل وزاد عليها، وتفنن باستعداء الحاضنة الشعبية بطريقة لم يسبقه إليها أحد من طلاب السلطة؛ ما جعل استمراره أمرًا مستحيلًا، وخروج الناس ضده أمرًا محتمًا، وزواله مسألة وقت..
*عوامل الزوال التي ركبها الجولاني:
أولًا: تفشي الظلم: فمن خطف الناس وتغييبهم في السجون لفترات طويلة، دون أن يعلم أهلهم عنهم شيئًا، ومن دون محاكمات، وممارسة كل أنواع التعذيب بحقهم، حتى أن بعض السجناء مات تحت التعذيب، ولم تكن حادثة المجاهد عبد الحكيم الوحيدة، وبعضهم ترك التعذيب في جسده آثارًا عميقة بقيت مددًا طويلة من الزمان، إلى تحول المحاكم إلى دور جباية، إلى أشكال أخرى من الظلم، حتى بات جهازه الأمني لا يكاد يختلف عن أجهزة النظام الأمنية.
ثانيًا: التسلط على أموال الناس، وإنهاكهم بالضرائب والمكوس؛ فلم يتركوا شيئًا إلا فرضوا عليه ضرائب، لدرجة أن فرضوا ضرائب حتى على من يريد أن يبني سورًا حول بيته، بل وصل الأمر أن يتندر الناس بالهيئة أنها تفرح إذا قصف النظام بيوت الناس؛ لأنهم سيدفعون لها رخصة بناء حتى يعيدوا ترميم بيوتهم؛ إلى هذه الدرجة وصل الحال!!
وكذلك تعطيل مصالح الناس بسبب الاحتكار، والتضييق عليهم في مصالحهم: فهذه سلعة سيادية، وتلك قد أعطوها تجارة حصرية للتاجر الفلاني؛ لأنه يدفع كذا وكذا، وتلك كذا..
أما المعابر وفارق الأسعار الفاحش بين إدلب والشمال وتعامل الهيئة مع الناس فيها: فمن قتل المرأة على المعبر، إلى قصص الملوخية و”الفليفلة الحمراء” إلى تفتيش “دابو” السيارات “خزان الوقود” إلى، وإلى… وما يزيد الإشكالية هنا أن الناس تتنقل بين الطرفين، وترى بنفسها فارق الأسعار وسوء التعامل على المعابر.
ثالثًا: الاستئثار المطلق بالسلطة، والتفرد والاستبداد بها؛ فلم يترك حتى لأحد من المصدرين عنده من الأمر شيئا.. ولقد قال أبو مالك التلي يوم ترك الهيئة معللًا تركه لها: “بسبب جهلي وعدم علمي ببعض سياسات الجماعة”.
وكذلك كان أبو فراس السوري -رحمه الله- قد قال قبل ذلك: “إلى الآن يتجنب المسؤول الاقتصادي عرض برامجه وعمله للضوء وأمام مجلس الشورى” وقال: “التصنيع الحربي عندنا صندوق”.
هذه شهادات شخصين من أعضاء شورى الجماعة!!
وما شهدته بنفسي أسوأ حتى من ذلك!!
جمعني يوما مجلس بواحد ممن يُصدَّرون في الإعلام على أنه قائد صف أول في الهيئة، فسأل هذا القائدُ شخصا إذا ما كان هو رئيس مجلس الشورى في الهيئة؛ لأن هذا الشخص كان قد خرج بيان بتعيينه رئيس مجلس شورى الهيئة قبل هذا المجلس الذي جمعنا بأكثر من عشرة أشهر.. قائد صف أول، لا يعرف مَن رئيس مجلس الشورى، ولكل هذه المدة من الزمن!!
هذا على مستوى الهيئة، أما على مستوى مجلس الشورى العام، والحكومة فالأمر أسوأ من ذلك بكثير..
رابعًا: كثرة التقلبات والاقتتالات الداخلية التي قام بها الجولاني؛ وما رافق ذلك من سفك للدماء، واستعداده لفعل أي شيء في سبيل السيطرة على المعابر..
خامسًا: فقدان الثقة بأمانة وكفاءة الجولاني؛ والأدلة على ذلك كثيرة متنوعة، وليس آخرها التعاطي مع قضية العملاء الأخيرة، بل حتى وعود وقرارات الإصلاح التي قدمها الجولاني من أجل الالتفاف على مطالب الناس.. لم ينفذ حتى هذه الوعود الشكلية؛ فالسجون مازالت مليئة بالمظلومين.
سادسًا: الجولاني، ليس فقط لم يأت بطريقة شرعية؛ بل إنه حتى في أسلوب القهر الذي تسلط به على الناس لم يستطيع إقناع أحد أنه حاكم أو قائد للمحرر، وظل مسمى “قيادة المحرر” مجرد كلمة يرددها هو وإعلامه، دون أن يكون لها وجود حقيقي في أذهان الغالبية العظمى من الناس.
سابعًا: استعداء نخب المجتمع الحقيقية من مشايخ ووجهاء وأكاديميين، وتهميشهم ومحاربتهم، وتقريب الجهلة والمجهولين، وفرضهم كممثلين عن المجتمع؛ فأصبح أهل الحل والعقد عنده من يتطاول على عمر -رضي الله عنه- ومن يتطاول على أهل أحد -رضي الله عنهم-، وأمثالهم…
وهنا أورد ما ذكره حسين مؤنس في كتابه «الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها» كعامل من عوامل سقوط الأمم: “ثم يصبح القضاء على كل صفوة جزءًا من سياسـة الحـكـم، ولا ينعم برضى صاحب السلطان إلا كل خانع قانع راض بأن يكون ذيلًا…
وهكذا حتى تتلاشى الصفوة تمامًا فيقوم صاحب السلطان بإنشاء طبقة قائدة خاضعة لإرادته وخادمة لملكـه، ولا تـكـون هـذه الجماعة صفوة أبدا وتكون وظيفتها القضاء على طموح الأمة وتجميـدهـا على الحال الذي يؤمن السلطة لصاحبها، وتشاركه في المغانم، وتتحول إلـى طبقة نبلاء أو أشراف”.
وغير ذلك من عوامل الزوال التي ركبها..
ومن ركب عوامل الزوال، وارتبطت به سمعة سيئة في أذهان الناس، لم يمكن إنقاذه، وإن لم يتنازل للصالحين سيزول على أيدي الطالحين؛ فهذه سنة الله في الاجتماع..
عودا إلى الأسئلة والاعتراضات التي تُطرح للتشغيب على مطالب الناس:
أولًا: مواجهة مطالب الناس بالكلام عن “التشرذم والتفرق في السابق وعدم القدرة على إنجاز أي توحد” من التلاعب البين؛ إذ يعلم الجميع أن أهم أسباب التفرق والتشرذم، بل والاقتتالات في السابق ولاحقًا، لم يكن الشيخ عبد الرزاق المهدي أو غيره من المشايخ، أو الأكاديميين، أو عوام الناس الذين يخرجون في المظاهرات الآن ضد الجولاني، وإنما كان الجولاني سببًا رئيسيًا فيها، ويشاركه أيضًا قيادات أحرار الشام، وأنهم كانوا حائلًا دون الوصول إلى أي مشروع يوحد الجهود ضد العدو، ويصب في مصلحة الناس، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا؛ أذكر منها على سبيل المثال: بعد سقوط درعا مباشرة تداعى بعض الغيارى للتشاور حول الوضع، وما يمكن عمله، حتى لا يكون مصيرنا كمصير درعا، وكان الشيخ أبو جابر، قائد الهيئة السابق، هو من دعاني للجلسة؛ فطرحت فكرة إنشاء مجلس أهل حل وعقد، أو قيادة للثورة، أو سموه ما شئتم، إذ ليست التسمية هي الغاية، يتكون من شرعيين، وعسكريين، وأكاديميين، وإعلاميين، ووجهاء الناس، يستطيع أن يقود الناس، ويحشد الطاقات ويلزم كل الفصائل بالدفاع عن المحرر، ويحول دون حصول الاقتتالات الداخلية؛ فكان التفشيل من قبل الجولاني، وكنا متفقين وقتها على تعميم فتوى الشيخ عبد الرزاق المهدي حول المصالحات، ثم اليوم أصبح الشيخ المهدي منبوذًا، ومفتي المصالحات هو المقدم!!
ثم طرح الشيخ أبو جابر فكرة توحد كونفدرالي أو أي شكل من أشكال التوحد؛ فكان الرفض من قبل الجولاني.
ثانيًا: مواجهة طلبات الناس بسؤال: “هل نرجع إلى التشرذم والفصائلية؟”
إن كان التساؤل هنا على مستوى إدارة شؤون الناس؛ فإن المتظاهرين لا يطالبون بتفكيك مؤسسات حكومة الإنقاذ، فضلًا عن إخضاع المناطق لسلطات مختلفة، وبعض المشاركين في المظاهرات هم من الكوادر المؤسسة لحكومة الإنقاذ أصلًا؛ فإيراد هذا التساؤل من التشغيب والتلاعب فقط.
إما إن كان على مستوى العسكرة؛ فلو تركنا الدعاوى والشكليات على جنب، ونظرنا للحقائق فهي مقسمة أصلًا؛ ولا أدري ما دخل المتظاهرين في هذا الموضوع حتى يطرح عليهم كاعتراض على مطالبهم؟!
ثالثاً: أما سؤال “مَن البديل؟”: فلو تناسينا كل شيء بخصوص قلة أمانة وكفاءة الجولاني، ووقفنا عند هذا السؤال لوحده لكفى كدليل إدانة ضد الجولاني، وبرهان على قلة أمانته؛ فهل يعقل بعد كل هذه السنين ألا تكون الجماعة قد أنشأت شخصيات تصلح للقيادة؟!
كما أن في طرح هذا السؤال استخفاف شديد بأفراد جماعته..
رأينا الجماعات الناجحة مليئة بالأشخاص المهيئين للقيادة، ولم يؤثر زوال قياداتها السابقة على مسارها شيئًا..
المحرر مليء بالكوادر والكفاءات التي يمكن أن تقود المحرر بشكل أفضل من قيادة الجولاني بكثير..
أحد المتصدرين للترقيع مؤخرًا يتحدث عن أن المعني بسؤال “مَن البديل” هو الدول الكبرى والإقليمية بالدرجة الأولى، وأن الدول الكبرى لم تجد فينا البديل عن بشار من قبل.. ولا أدري هل تستحق هذه الهرطقات الرد عليها؟!!
أ- باعتراف الجميع، حتى من رضي أن يمشي مع الأمريكيين إلى أبعد يعترفون أن الأمريكيين هم أفشل كل محاولات إنشاء بديل عن بشار، بينما ثبتوا قسد، والأمريكيون كانوا صريحين أصلًا منذ البداية في أنهم لا يريدون إسقاط بشار، وإنما تعديل سلوكه؛ ولاءات روبرت فورد الثلاثة معلومة للجميع..
ب- يعني تعترفون أنكم تحولتم إلى جماعة ضبط وسيطرة مرضي عنها دوليًا، أو “مشروع استراتيجي” كما قال جيمس جيفري يوما؟!!
لكن، العجيب أنكم تتحدثون عن أنكم البديل المرضي عنه دوليًا وفي نفس الوقت عن مؤامرة دولية وإقليمية لتفكيككم!! ولا يقول بالمتناقضين إلا مجنون؛ فهلا استقريتم على واحدة؟!
رابعاً: سؤال “ما البديل؟”: والجواب على هذا السؤال سهل جدًا على من يخاف الله ويريد شرعه..
البديل عن حالة التفرد والاستبداد هو مجلس شورى حقيقي؛ يتكون من الكفاءات ونقباء الناس ورؤوسهم؛ وهذا المجلس هو من يختار من يقوده، كما لا يملك القائد أو غيره من آحاد الناس حله أو عزل وتغيير أحد أعضائه..
البديل عن تسلط الجهال تول الكفاءات
البديل عن مشاريع الضبط والسيطرة مشروع تحرر ودفاع عن المحرر..
البديل عن المشروع الأمني الجبائي مشروع حماية للناس وخدمي لهم، رحيمًا بهم، وليس هدفه امتصاص أموالهم..
البديل عن الظلم هو العدل وتحرر القضاء وجعله سلطة عليا لا سلطة فوقه..
اللهم هيئ لنا أمر رشد، ول أمورنا خيارنا، ولا تسلط علينا شرارنا.