الأستاذ: أبو يحيى الشامي
يقوم نظام الحكم في الإسلام على ثلاثة أركانٍ أساسيةٍ لا يقوم ولا يستمر إلا بها، ويتفرع عنها ما عداها، هذه الأركانُ هي: الشورى، والعدلُ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى : 38]، فالشورى يتجلى بها الاعتصامُ ويستمرُّ، وتطيبُ بها الأنفسُ، وتسدَّدُ وتصوَّبُ القراراتُ، وتنمو الثقةُ بين مكوناتِ المجتمعِ المسلمِ وقيادته.
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء : 58]، فالعدلُ أساسُ الملكِ (الحُكم)، وهو أساس الاستقرارِ والرِّضا في المجتمع المسلمِ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “رسالة في الحسبة”: (فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى: “اللهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً”) مجموع الفتاوى، (ج28/ ص63).
وقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران : 104]، فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ وسيلةُ تقويمٍ عامةٍ، وليست وسيلةَ تزكيةٍ مجتمعيّةٍ تستهدف الأفرادَ دون المجتمعِ ككلٍّ ونظامِ الحكمِ فيه، وبالتّقويمِ والإصلاحِ يستمر التّماسكُ، وتزدادُ القوّةُ، وينجو المجتمعُ ونظامُ حكمه من العقابِ الإلهي.
هذه الأركانُ (الشُّورى، والعدلُ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ) تمثل لبَّ نظام الحكم الإسلامي، ولا تغني عنها القشور، فاللُّبُّ هو الأصل والقشور إنما هي صورةٌ لا كبير قيمة لها تزول بزوال اللُّبِّ ولو بعد حين، لكن بناءَ البنيان على أركانه والاعتناءَ باللُّبِّ ليس بسهولةِ كتابةِ هذه الكلمات، ولا يستطيعُ الصبر عليه إلا من استعانَ بالله وأخلصَ نيته وأصلحَ عمله.
إن الشِّعاراتِ التي تتغنى بالشورى والعدل والإصلاح إنما هي قشورٌ وصورةٌ زائفةٌ إذا لم يبادر رافعها إلى رفع الأركان من البنيان أوّلاً بأوّل، وإن هذه الصورة الجسد التي لها جعجعةٌ تتهاوى عندما يرى أبناءُ الأمَّةِ القولَ لا يوافق العملَ، أثناء الاصطدامِ بجبالِ الواقعِ وصخورهِ.
ربَّما تنطلي تبريراتُ “عدمِ التَّمكينِ” و”حالةِ الطَّوارئ” و”ضروراتِ المرحلةِ” على السَّاذجِ حسنِ النِّيَّةِ وضحلِ الخبرةِ من النَّاسِ، مع أن الله أمر بالممكنِ في قرآنهِ وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، إذ لا يسقطُ الميسورُ بالمعسورِ، إلا أن انبلاجَ الحقِّ عندما تنعدمُ مستنداتُ التَّبريرِ يُذهبُ الزُّورَ والقُشور، والحق أن من عطَّل الشُّورى والعدلَ والإصلاحَ في أيَّةِ مرحلةٍ من مراحلِ الجهادِ عطَّلها في مرحلةِ التَّمكين وجنيِ الثِّمار كليًّا كان أم جزئيًّا، والذي يطغى في الضَّعفِ هو عند القوَّةِ أطغى.
إنَّ نظامَ الحكمِ ضعيفٌ أجوفٌ متهاوٍ إذا كانت أركانهُ مفقودةٌ أو كانت صورةً مزوَّرةً، فبناءُ الحقيقيِّ منها صعبٌ والصَّبرُ عليه صعبُ إلا على من يسَّرهُ الله له، وثمارُ الحقيقيِّ هي من جنسِ ثمارِ الصبرِ العمريِّ على الأركانِ وجنسِ عدلهِ، فالأركانُ أركانٌ في القرن الأولِ وفي سائرِ القرونِ، من ضيَّعها ضاعَ وأضاعَ، ومن حفظها حقَّقَ عينَ العدلِ وملأَ الأرضَ بهِ ولو كانَ في زمنِ أكبرِ الفتنِ، فتنةِ المسيحِ الدَّجالِ.
يقولونَ فلانٌ رجلُ مؤسَّساتٍ أو رجلُ دولةٍ أو رجلُ نظامٍ، فقط لأنهم خُدِعوا بالصُّورِ التي رسمها حوله والقشورِ التي تزيَّا بها، وهو في الحقيقة لا يصبِرُ ساعةً على شورى قويَّةٍ تقولُ وتفعلُ، وقضاءٍ مستقلٍّ يُرغِمُ الرأسَ قبل المرؤوسِ، وأصحابِ همٍّ وهمَّةٍ يأمرونَ وينهونَ ويصدعونَ بالحقِّ وإن كان مرًّا.
إنَّ رسمَ صورةَ الشُّورى مع تعطيلها والاستبدادِ بالرأيِ أسهلُ وأسرعُ في الإنجاز، وهكذا يُفقدُ ركن الشورى وثمارهُ، وإن رسمَ صورةِ القضاءِ وتزيينها وتخطِّي القضاءِ إلى المحسوبيَّاتِ للموافقينَ والبطشِ بالمخالفينَ أسهلُ وأكثرُ جمعاً للأتباعِ، وهكذا يُفقدُ ركنُ العدلِ وثمارهُ، وإن رسم صورةِ الإصلاحِ وسماعِ صوتِ الناصحِ المتملِّقِ الكاذبِ أهونُ على السَّمعِ وأخفُّ وطئاً من سماعِ صوتِ الصَّادعينَ بالحقِّ الآمرينَ الناهينَ الصَّادقينَ، وهكذا يُفقدُ ركنُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ وثمارهُ، ثم ينهارُ البُنيانُ على رؤوسِ المخدوعينَ به والسَّاكتينَ عنه.
رجلُ المؤسَّساتِ هو الذي يسوِّقُ للمؤسَّسةِ ويدعو إلى بنائِها على أركانِها بجهدٍ جماعيٍّ جامعٍ، ولو استحقَّ حقيقةَ الأوصافِ لاستحقَّها طواغيتُ العربِ، فواحِدهُم هو القائدُ الأعلى وباني الدَّولةِ والمعلمُ الأوَّلُ وراعي الثَّقافةِ والرِّياضيُّ الأوَّلُ و….. ولكنَّها أوصافٌ لا حقيقةَ لها في واقعِ هدمِ المؤسَّساتِ وأركانِ الدَّولةِ ورسمِ الصُّورةِ المُزيَّفةِ “السَّهلةِ”.
وفي الوقتِ الذي سقطتْ فيه رموزُ الانظمةِ العربيَّةِ الوظيفيَّةِ التَّابعةِ بعد أن ملكت الشعوبَ بسطوتِها وسلطتِها وصورتِها، يخطئُ من يسلكُ نفسَ الطريقةِ في التَّسويقِ، فمع أن الصُّورةَ في مطعمٍ أسهلُ من علنيَّةِ المحاكماتِ وضبطَ الإجراءاتِ، وسماعَ شكاوى بعضِ النَّاسِ “الخدميَّةِ” في مكانٍ محصورٍ أسهلُ من سماعِ صوتِ النَّاصحينَ، وحلَّ مشاكلِ بعضِ الموجودينَ في موقعِ التَّصوير أسهلُ من حلِّ مشاكلِ مئاتِ آلافِ المسلمينَ، تكفي هذه الطريقةِ الالتفافيَّةِ لتكشفَ حقيقةَ العجزِ عن القيامِ بالواجباتِ وعدمِ السماحِ بمشاركتِها مع الأكفاءِ غيرِ الخانعينَ، ويستمر العاجزُ في العدولِ عن بناءِ الأركانِ والاعتناءِ باللُّبِّ إلى التزيِّي والتزيُّنِ بالقُشور!.
هذا يشبهُ في القياسِ محاولةَ تحويلِ أنظارِ النَّاسِ عن لبِّ أيَّةِ مسألةٍ إلى قُشورها، كالذي يُعتقلُ ويسجنُ بغيرِ وجهِ حقٍّ ولا تهمةٍ واضحةٍ، فيناقِشُ الظالمُ الغاشمُ لباسَ المعتقلِ وهل تم ضربهُ أثناءَ الاعتقالِ أم لا!، ولبُّ المسألةِ هو الاعتقالُ التَّعسفيُّ، وغيرهُ تبَعٌ لهُ وقشورٌ.
ويستمرُّ مسلسلُ الاشتراطِ والتذرُّعِ والتَّبريرِ، كالمثالِ الحاضرِ في الذِّهنِ دائماً، “خلُّوا بيننا وبين النُّصيريَّةِ” الذي جرى على لسانِ الهالكِ النَّاطقِ باسم الخوارجِ في الشَّامِ، والحقيقةُ أن النُّصيريَّةَ سلِموا وابتُليَ أهل السُّنَّةِ والجهادِ بتكفيرهِم وجرائمهِم، فكيف بمن يحاولُ إقناعَ النَّاسِ بأنَّ القادمَ أفضلُ وأنَّهُ يسعى إلى تحقيقِ الصُّورةِ لكن حاله “خلُّوا بيننا وبين التَّفرُّدِ”، “خلُّوا بيننا وبين التَّسلُّط”، ثم يستمرُّ التَّزييفِ والتَّصويرِ، ثم “خلُّوا بيننا وبين الوسائلِ غيرِ الشَّرعيَّةِ” مبرراً بعدمِ التَّمكينِ! أو ضرورةِ المرحلةِ! أو حالةِ الطَّوارئِ!.
إن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيِّباً، والغايةُ لا تبرِّرُ الوسيلةَ، وما بُنيَ على باطلٍ نتاجهُ باطلٌ، والقُشورُ لا تغني عنِ اللُّبِّ، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبعَ، لا بُدَّ من قولهِ والعودةِ إليهِ قبلَ فواتِ الأوانِ، وقدْ خابَ من حملَ وزرَ تضييعِ الفرصِ وهدرِ الطَّاقاتِ وتشويهِ صورةِ نظامِ الحكمِ الإسلاميِّ في أذهانِ عامَّةِ المسلمينَ وغيرهِم، من أجلِ متاعٍ من الدُّنيا قليلٍ ومتعةِ ملكٍ هزيلٍ زائلٍ.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88].