الأستاذ: غياث الحلبي
وقف عصام في المدرج فرحا مزهوا بنفسه وقد غمرت السعادة قلبه حتى كأن الدنيا لم تعد تسعه، كان يشعر أنه كالعصفور خفة وكالفراشة نشاطا وكالأم التي التقت ولدها بعد طول غياب سعادة؛ لقد تخرج أخيرا من الجامعة وحصل على شهادة الإدارة والمحاسبة.
إنه الآن في مدرج الجامعة حيث يقام له ولزملائه المتخرجين حفل التخرج، وتسلم إليهم وثائق تخرج.
كان عصام ينتظر دوره ليستلم شهادته، وأثناء ذلك أخذ يرمق الماضي الذي عاشه، ستة عشر عاما أمضاها عصام على مقاعد الدراسة، ستة عشر عاما مضت في انتظار هذه اللحظة العظيمة، ستة عشر عاما لاقى فيها المصاعب والشدائد وعانى من شظف المعيشة وألوان الحرام ليتمكن من توفير مصاريفه الدراسية.
أما الآن فقد انتهى ذلك كله، أو كذلك كان يظن عصام، ستفتح الدنيا أبوابها له وسيجد وظيفة محترمة في شركة مرموقة ويحصل على راتب مجز يعوض فيه والديه عن الحرمان الذي عاشاه وشظف العيش الذي تحملاه، ولا شك أن الشركات ستتسابق إلى توظيفه للشهادة التي يحملها.
انتهى الحفل وتسلم عصام شهادته وعاد إلى البيت لينام وهو يحلم بمستقبل زاهر مشرق مثل الذي كان يقرأ عنه في الكتب الدراسية وهو في المرحلة الثانوية.
استيقظ فجرا فصلى الصبح في المسجد ثم أمسك بالجريدة وأخذ يقلب أوراقها حتى وصل إلى صفحة الوظائف المعلنة، فأخذ يجول بعينيه بين أسطرها حتى عثر على وظائف تناسبه، وبدأ مشوار التواصل والمراسلات والمقابلات والوساطات لعله يجد عملا، ومرت الشهور تلو الشهور دون جدوى، وأصبح عبئا على والديه بعد التخرج كما كان قبل التخرج.
وبعد شهور طويلة رأى إعلانا لشركة تطلب موظفا يحمل شهادته في الإدارة والمحاسبة ليكون مساعد محاسب، وينبغي ألا يتجاوز عمره الثلاثين عاما، مع مظهر حسن وقدرة على تحمل ضغط العمل.
قدم عصام على هذه الوظيفة فأعطوه موعدا للمقابلة، وفي اليوم المحدد ذهب للمقابلة، وبعد ساعة من الانتظار داخل الشركة، استقبله رجل في منتصف العقد الخامس من عمره، وعرفه بنفسه أنه نائب مدير الشركة والمكلف بتسيير أعمال الشركة في حال غياب مديرها.
شعر عصام بارتياح تجاه هذا الرجل، فأخذ يحدثه عن نفسه ودراسته والشهادة التي يحملها، وبعد أن فرغ قال له نائب المدير: هل عملت من قبل، قال عصام: لا، قال نائب المدير: وهل بحثت عن عمل، فتلعثم عصام وقال: نعم بحثت ولكن لم يتيسر الأمر إلى الآن، فقال له نائب المدير: حسنا مواصفاتك جيدة وسنعطيك فرصة لتدخل عالم العمل فأرجو أن تكون عند حسن الظن ولا تفرط في هذه الفرصة العظيمة لشاب في أول حياته العملية، ويمكنك أن تبدأ العمل من أول الأسبوع القادم.
شكر عصام الرجل، وقال: بإذن الله سأكون عند حسن ظنكم، وأعمل بجد لإثبات الجدارة، وسأصقل خبراتي النظرية بالتطبيق العملي، ولا شك أنني سأتعلم المزيد من المحاسب وخبرته.
فوجم نائب المدير عند سماعه هذا الكلام.
فأدرك عصام أن ثمة خطأ ما فقال للنائب: ما الأمر؟ هل أخطأت في شيء؟
فتلعثم المدير قليلا، وقال: لا لا، لكني أظن أنك يجب أن تعتمد على نفسك ولا تطلب مساعدة من أحد، ولا يغب عن بالك أن من الشروط أن تتحمل ضغط العمل.
لم يفهم عصام ما الذي يقصده النائب بكلامه، فدراسته كانت في المجال العلمي وهو لا يعرف شيئا عن تحليل الكلام وقراءة ما بين السطور من الأسرار، ولكنه لم يلق بالا لذلك، المهم أنه وجد عملا مناسبا وسيباشره قريبا.
ومع ولادة الأسبوع التالي انطلق عصام إلى الشركة، فقابله المدير، ثم اصطحبه إلى غرفة المحاسب، وهناك عرفه على الأستاذ أهيف المحاسب الرسمي للشركة.
رأى عصام أمامه شابا سمينا جدا تبدو عليه مظاهر الترف والبطر بشكل ملفت، عمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، مد عصام يده مصافحا الأستاذ أهيف فقابله برؤوس أصابعه وكأنه يصافح يدا قذرة، فكانت بداية سيئة شعر معها عصام بالإحباط، ثم جلس نائب المدير أمام الحاسوب وأخذ يشرح لعصام كل شيء عن الشركة وأنظمتها وطبيعة العمل الذي يجب على عصام أن يقوم به.
بينما كان الأستاذ أهيف يجلس جانبا على كرسي ضخم يمضغ العلك، وبين الفينة والأخرى ينفخ فيها فتتشكل كرة من العلك مليئة بالهواء لا تلبث أن تنفجر، وبيده جوال يعبث به، ثم أخرج لفافة تبغ من علبة في جيبه وأشعلها وأخذ ينفث دخانها بحركات صبيانية في أرجاء الغرفة.
أخيرا انتهى نائب المدير من شروحاته وجلس عصام مكانه، وبدأ العمل بجد واهتمام فهو يريد أن يثبت جدارته ويحوز ثقة مدير الشركة.
وكان يريبه ما يصدر من المحاسب المزعوم من لعب ولهو وجهالات مستمرة، فهو لا يفعل أي شيء سوى ذلك، وإذا جلس مرة ليعمل أفسد كل شيء بجهله، فلا يتقن شيئا ولا حتى العمليات الحسابية الأربعة مع تكبر شديد وثقل روح حتى كأنها أثقل من جبل أبي قبيس، وسماجة قل أن تجد لها نظيرا، حتى إن عصاما كان عندما يراه يتبادر إلى ذهنه قول الأعمش: إذا كان عن يسارك ثقيل فتسليمة عن يمينك تجزئك.
وذات يوم دخل عصام على نائب المدير متضايقا يشكو له سوء تصرفات المحاسب المسؤول، ويقول له: من هذا الرجل وما مؤهلاته وما الشهادة التي يحملها؟ فأجابه النائب بكلمة واحدة: إنه ابن مالك الشركة ومديرها، فقال عصام: ولكنه لا يفقه شيئا بالمحاسبة، فقال النائب: ولماذا وظفناك إذن؟ فقال عصام: وهو ثقيل بغيض، فقال المدير: قد أخبرناك بوجوب تحمل ضغط العمل، ثم قال له: اسمع يا عصام، إنك بمثابة ولدي وأنا أحب لك الخير، عليك أن تتحمله كما أتحمل أنا أباه حتى لا تفقد وظيفتك وتعود عاطلا بلا عمل، فخرج عصام حزينا كاسف البال.
وكان هذا المحاسب المزعوم ابن المدير إذا تكلم مع عصام تكلم بلهجة آمرة ساذجة: نريد يا عصام أن تكبر الشركة وأن تحقق أرباحا كثيرة وخطتنا أن يكثر الزبائن ومشروعنا أن نفتح فروعا جديدة، في كلام سطحي غير مرتبط بالواقع ولا بخطط العمل ولا بمراحل ولا إمكانيات، ولم يكن عصام يلتفت لهذا الكلام، بل كان يبذل جهودا فردية عظيمة مبنية على دراسته العلمية والتخطيط الجاد لإنجاح الشركة ويدرس عقودها دراسة وافية، بل ولدراسته في الإدارة كان يقدم أفكارا جديدة واقعية لتنمية الشركة وتوسيع نشاطها، وقد وثق نائب المدير بعصام وتبنى مقترحاته، فتقدمت الشركة وكثرت أرباحها.
ومع النجاح والتقدم في الشركة تقرر إقامة احتفال لتكريم عدد من الأعضاء العاملين، فاستدعى نائب المدير عصاما وشكره على جهوده وأخبره بأمر الاحتفال، وطلب منه أن يجهز خطبة ليلقيها يوم الاحتفال يثني فيها على جهود المدير العبقرية وخطط الأستاذ أهيف الذكية ونظرته الثاقبة ورؤاه المستقبلية الصائبة.
فقال عصام: أجاد أنت يا أستاذ؟ فقال: الجد كله. فقال: ولكنك تعلم أنه أحمق من هبنقة. فقال: أعلم ذلك، ولكن هناك بيت شعر لا تعلمه المدارس الرسمية وإنما يُتعلم في مدرسة الحياة القاسية. فقال عصام: وما هو؟ فقال النائب:
على عظم قدر الصفق تأتي المغانم
وتأتي على قدر النفاق المناصب
فقال عصام: ولكن البيت ليس هكذا. فقال النائب: هو هكذا يا بني ودعك من أوهام أبي تمام الطائي، يا بني صفق أكثر لتترقى ويزداد راتبك وإلا فأنت تعلم العاقبة.
خرج عصام مغضبا، ووصل إلى بيته وصدره يغلي غيظا، فجلس أمام طاولته فأعد خطبة عصماء ذكر فيها إنجازاته وخططه وجهوده المبذولة وأغفل تماما ذكر المدير الثري الكسول والأستاذ أهيف الغبي العابث، وقال في نفسه: سألقيها في الحفل ولن أصفق للباطل، وليكن بعد ذلك ما يكون ولو طردوني وعدت عاطلا عن العمل ثقيلا على أبي وأمي.
وفي الحفل دُعي عصام ليلقي خطبته أمام الجمع، وكان الأستاذ أهيف يجلس في المقاعد الأمامية وهو يمني نفسه بسماع مدائح ما قيل مثلها في ملوك بني أمية وبني العباس وأعاظم قادة الأمة الإسلامية وعلمائها، ولكنه فوجئ بإغفاله تماما، فخرج غاضبا مقاطعا الحفل، ثم طلب نائب المدير إلى مكتبه وطلب منه على عجل أن يعد ورقة فصل عصام من الشركة.
فقال له: ولكن يا أستاذ أهيف اعتبرها غلطة غير مقصودة، وأنت تعلم أن عصاما من أفضل موظفي الشركة، وقد قدم لنا خدمات عظيمة.
فقال: لا يهم، ألم تر إلى وقاحته وسوء أدبه، لم يشكرني بكلمة واحدة ونسي جميع جهودي العظيمة التي بذلتها، افصله ولو أدى ذلك إلى دمار الشركة.
ولم ير نائب المدير بدا من الامتثال لأمر هذا الصبي الكبير حتى لا يفقد هو وظيفته أيضا، فأعد ورقة الفصل، وتركها أمام الأستاذ أهيف ثم خرج.
وعندما انتهى عصام من الحفل توجه إلى مكتبه فوجد أهيف بانتظاره، وما إن دخل حتى رمى ورقة الفصل في وجهه، فتناول عصام الورقة ولما قرأها قهقه بصوت عال، وقال: كنت أتوقع ذلك، افصلني ولكن لن أطبل ولن أرقع لحماقتك أيها الطبل المنفوخ، ولن أدفع كرامتي ثمنا لمال ولو كان مال الدنيا بأجمعها، ثم جمع أغراضه وخرج من الغرفة، وأغلق بابها وراءه بقوة تاركا أهيف ونفسه تتقطع حسرات، عائدا إلى مشوار البحث عن عمل ولكن عمل كريم يليق بنفس حرة لا تنافق لجاهل متكبر.
انتهت.
بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ