لا ينال عهدي الظالمين[1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد؛
فقد فوجئ عموم المسلمين بإعلان صوتي يزعم فيه صاحبه أن جماعته قررت إعلان الخلافة، ونصبوا خليفة تجب على المسلمين بيعته.
وإننا أمام هذا الإعلان نبين ما يلي:
أولا: أن الرجوع لأهل العلم عامة وفي الأمور العظيمة خاصة، دين وعبادة وشريعة:
قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقال جل وعلا: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
قال الشاطبي: “الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية”.
وقال ابن تيمية: “الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدين الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين، فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا”.
أما تجنب طريق أهل العلم، وعدم المبالاة بنصح الأئمة الأعلام، واتباع أهل الأهواء الذين تنكبوا الطريق مرات ومرات، فهو سبيل الغلاة الظالمين قال جل وعلا: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾، وقال تعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾.
فشتان شتان بين من سار على بينة من ربه جل وعلا واتبع سبيل المؤمنين، وبين من زين له الشيطان سوء عمله واتبع هواه، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾.
ثانيا: أن تأخير إقامة الخلافة للعجز عن إقامتها أو لحصول مفسدة أعظم لو أقيمت محل اتفاق بين العلماء:
وهذا مبني على أصول عظيمة من أصول الشريعة، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» متفق عليه.
وقد بنى العلماء على مر القرون كثيرا من القواعد على هذه الأدلة القطعية، منها قولهم: “الضرورات تبيح المحظورات”، و”لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة”، و”الواجب لا يترك إلا لواجب”، و”المشقة تجلب التيسير”، و”إذا تعارض واجبان فإنه يقدم الآكد منهما وجوبا”، و”درء المفاسد أولى من جلب المصالح”، و”ما لا بد منه لا يترك إلا بما لا بد منه”، و”لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها”، و”المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، والمضطر إليه بلا معصية غير محظور”، و”الحرج مرفوع”.
قال ابن تيمية: “من الأمور المباحة، بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا، ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة”. وقال رحمه الله: “قتل القاتل إنما شرع عصمة للدماء، فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة، وقد قتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان”.
فلم يكن تأخير إعلان الخلافة منذ سقوطها قبل قرابة مائة عام بتواطؤ من العلماء والمجاهدين والدعاة والمصلحين على ترك واجب تعين القيام به وتوفرت شروط أدائه؛ رغم انتشار المسلمين في بقاع كثيرة من الأرض وإقامة الشريعة وتطبيق الحدود؛ حيث قامت سلطنة في نجد والحجاز وأقامت الشريعة فترة من الزمن، وسيطر المجاهدون على كثير من أرض أفغانستان قرابة عشرين سنة، وكذلك سيطر المجاهدون على أراض في البوسنة والشيشان ومالي وباكستان والجزائر واليمن، ولم يعلن كل أولئك إقامة الخلافة.
بل ظلت جماعة دولة العراق تدعي التمكين في أرض العراق والشام فترة من الزمن، ومع ذلك لم تدع الخلافة.
ولم يكن تأخير إعلان الخلافة إلى توفر شروطها بدعا في تاريخ الأمة، بل قد خلت الأرض من خليفة أعواما عدة عندما دخل التتار بغداد وقتلوا الخليفة، رغم أن كثيرا من ديار الإسلام ظلت محكومة بالشريعة كالحجاز ونجد واليمن ومصر والمغرب وكثير من بلاد الشام..، فلم ينشغل المسلمون باختيار خليفة والتتار على الأبواب، وممالك المسلمين ممزقة، قال السيوطي: “ثم دخلت سنة سبع وخمسين والدنيا بلا خليفة..، ثم دخلت سنة ثمان وخمسين والوقت أيضا بلا خليفة..، ثم دخلت سنة تسع وخمسين والوقت أيضا بلا خليفة..، وكان مدة انقطاع الخلافة ثلاث سنين ونصفا”.
ثالثا: أنه لا بيعة لخليفة لا تنقاد الأمة له:
فمن أهم شروط أهل الحل والعقد أن تنقاد الأمة ببيعتهم، قال الإمام أحمد: “تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع المسلمون عليه، كلهم يقول: هذا إمام”.
قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: “لا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة”، وقال الجويني: “تبايع رجال لا يفيد مبايعتهم شوكة ومنة قهرية فلست أرى للإمامة استقرارا”.
وليعتبر من شاء بالمسلمين في المدينة، فقد كانت المدينة معقل الإسلام الذي اجتمع فيه المسلمون وانقادوا للرسول صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» رواه مسلم. فليست الخلافة انحياز فئة من الناس في بقعة من الأرض منعزلين عن أمصار المسلمين العامرة بقاطنيها، ثم تريد تلك الفئة أن تبسط سلطانا على تلك الأمصار المترامية الأطراف بمجرد إعلانها الخلافة، دون أن تكون لها شوكة تنقاد بها الأمة لهم.
رابعا: أنه تناط بالخلافة واجبات وحقوق فإذا أدى قيامها لتضييع تلك الواجبات والحقوق فهذا دليل عدم توفر شروط قيامها:
قال الشاطبي: “وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام، وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم”.
وذكر الماوردي مهام الخليفة؛ فذكر منها: “حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه.
– وحماية البيضة والذب عن الحريم.
– وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة.
– وجهاد من عاند الإسلام.
– وتقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير.
– واستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء.
– وأن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح”.
فأولى ما تقوم من أجله الخلافة هو توحيد الله جل وعلا والكفر بالطاغوت؛ فإذا أدى إعلان الخلافة إلى نقيض قصد الخلافة فتمزق المجاهدون تمزقا يتيح للطاغوت النصيري البقاء والحكم بالطاغوت ونشر الكفر بالله جل وعلا، فلتترك الخلافة التي تمزق المجاهدين تقديما للجهاد الذي يسعى لإزالة هؤلاء الطواغيت.
وإذا أدى إعلان الخلافة المزعومة إلى نشر عقيدة الخوارج، وتكفير المسلمين، وقتل الضعفاء وسلب أموالهم، وتسلط الرويبضة على الأمة يغرقون سفينتها بجهلهم وضلالهم، فبئس ذاك الإعلان.
وإذا أدى إعلان الخلافة المزعومة إلى تضييع الثغور، وتشجيع الثارات القبلية، والاستخفاف بمصالح المسلمين، فهل هذه خلافة؟.
وإذا أدى إعلان الخلافة المزعومة إلى تكتيل الأعداء، وتوحيد صفوفهم، وتهيئة الأوضاع لهم للانتقام من ضعفاء المسلمين، فأي خلافة تلك؟.
قال ابن تيمية: “فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما، فقدم أوكدهما لم يكن الآخر فى هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة”.
وقال الشاطبي: “كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له؛ فقد ناقض الشريعة، وكل ما ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل”.
ولم يكن عجيبا أن يكون الشغل الشاغل عند إعلان هذه الخلافة المزعومة التأكيد على بطلان الجماعات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، والحرص على شق عصا الكيانات التي تواجه ملل الكفر ومخططات الطواغيت.
ولم يكن عجيبا أن يتناس المعلنون هموم الأمة الحقيقية؛ فلا الأقصى السليب يعنيهم، ولا الأعراض المنتهكة تشغلهم، ولا مؤامرات العلمانيين والشيوعيين والقوميين والماسونيين تؤرقهم، فما سل الخوارج الخنجر إلا لتطعن به ظهور المجاهدين والصادقين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وختاما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيخرج ناس من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع، حتى عدها النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على عشر مرات، كلما خرج منهم قرن قطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم».
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وآخر عوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبها
أبو شعيب طلحة محمد المسير
لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد bdf اضغط هنا
للقرأة من الموقع تابع ⇓