قضيةُ الاتّباع في ضوء القرآن – مجلة بلاغ العدد ٦٤ – صفر ١٤٤٦ هـ

باحث

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد:

“الاتباع” فطرة بشرية فطر الله تعالى الإنسان عليها، فكل إنسان يولد يبحث عمّن يتبعه ويقتدي به ويسير خلفه، وهذا الاتباع إمّا يكون اتباعاً مذموماً أو محموداً، فما كان يوافق الله ورسوله وملة الإسلام والنهج القويم فهو اتّباع إيجابي محمود، وما كان يوافق الشيطان والهوى فهو اتباع سلبي مذموم، وقد بيّن الله تعالى في القرآن هذين النوعين فقال عن الاتباع المحمود: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه:123] ، وقال أيضاً: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]، وغيرها الكثير من الآيات، وقال عن المذموم: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال أيضاً: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21] وغيرها من الآيات، وإني في هذا المقال أسلط الضوء على النوع السلبي من الاتباع، إذ ببيانه يتضح الآخر.

ابتليت الأمة اليوم بمرض الاتباع الأعمى، وانقسم الناس إلى فئتين، فئة المتبوعين من الأسياد والأمراء والقادة والمتألهين الضالين المضلين، وهي فئة أقل من فئة الأتباع، وفئة الأتباع من العامّة والرعاع والسّذج عديمي الشخصية أصحاب الذلّ والهوان، وهذا الاتباع المقيت موجود في كل زمان ومكان من عهد آدم إلى يومنا، إلا أنه تضخم بنسبة كبيرة في العقود الأخيرة.

لقد اعتنى كتاب الله تعالى بقضية الاتباع أيما اعتناء، وجلّى لنا حقيقة صراع الأتباع مع المتبوعين، وسلط الضوء على مشاهد التبرؤ والتلاوم والتلاعن والتشاتم والندم والحسرة يوم القيامة، وكيف أنّ كل فريق لا ينفع الآخر، وستقطع الأسباب التي كانت تربطهم.

السور التي ذكرت قضية الاتباع المقيت: (البقرة ــ الأعراف ــ النحل ــ القصص ــ الأحزاب ــ سبأ ــ ص ــ غافر)، وإليك أخي القارئ أبرز محطّات ومشاهد هذه القضية:

أولاً: خداع الأتباع بالمتبوعين

إن اتباع الشعوب والجماهير والرعاع أصحاب الذلّة والصغار لفئة الأسياد والرؤساء والكبراء اتباع مبني على الخداع والوهم، يعتقد الأتباع أن القوة والسلطان والجبروت والمال بيد أسيادهم وزعمائهم، وأنهم خالدون في الدنيا باقون على عروشهم، بيدهم العطاء والمنع، والضر والنفع، فيذلون أنفسهم ويلغون وجودهم ويخضعون كل الخضوع أمام أرجلهم، بل يقدمون محبتهم على محبة غيرهم إلى أن يصل بهم الأمر أن يسووهم بالله تعالى، خوفاً على أعمارهم وأرزاقهم، فما هي إلا أن تقوم الساعة حتى تتجلى حقيقة أمرهم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165]، نبّه الله الأتباع أن الذين تتخذونهم أنداداً من دون الله توالون وتعادون عليهم، لا يملكون قوة ولا منعة ولا سلطاناً، بل لله القوة جميعاً وهو شديد العذاب يوم القيامة، عذابه محيط بالمتبوعين المضلين والأتباع الضالين، والمتبوعون لا يغفلون عن جانب إظهار القوة والسلطان والكبرياء والغرور ليرهبوا أتباعهم ويقذفوا الرعب في قلوبهم، فهذا فرعون يخوف أتباعه ويحذرهم بأنه هو مالك أمرهم ومدبر شؤون حياتهم، بيده أرزاق العباد وأقوات الناس { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51-52].

ثانياً تبرؤ المتبوعين من الأتباع:

يقف الأتباع مع المتبوعين أمام عذاب الله تعالى يوم القيامة لا يجدون عنه محيصاً، المتبوعون مثل الأتباع تماماً لا يملكون أيّ مظهر من مظاهر القوة، هنا يطلب الأتباع نصرة المتبوعين كما نصروهم في الدنيا، وأن يدفعوا عنهم العذاب كما دافعوا عنهم في الدنيا، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} [إبراهيم:21]، {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ ٱلنَّارِ} [غافر:47]، ولكن هيهات هيهات، {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21]، فلقد تخلى المتبوعون عن أتباعهم وتبرؤوا منهم وقطعوا صلتهم وعلاقتهم بهم، {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل:86]، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166]، هذه هي نهاية الصلة بين الأتباع والمتبوعين؟ كم قدّم الأتباع الضعفاء لمتبوعيهم في الدنيا، وكم أنفقوا لهم من الأوقات والأعمار والطاقات والكرامة، وكم خدموهم وأعانوهم ودعموهم، والآن عند حاجة الأتباع لمتبوعيهم يسارع المتبوعون بالتبرؤ من خدمهم وأتباعهم، {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف:37]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوٓاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [الأعراف:62-63].

ثانياً: تلاوم الأتباع للمتبوعين والعكس:

     بعد مشهد التبرؤ وقطع العلاقات والصلات التي كانت تجمع الأتباع مع المتبوعين، يصور لنا القرآن مشهداً حياً للوم الأتباع للمتبوعين والعكس، مشهد الاتهام المتبادل، فكل فريق يبدأ برمي التهمة على الآخر ويحمله مسؤولية ما وصلوا إليه للخلوص من العذاب وتبرئة الذات، فيقول الأتباع لسادتهم وكبرائهم {لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]، ويقول الآخر: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32]، فيرد الأتباع ليبطلوا كلام أسيادهم {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}  [سبأ:33]، وهكذا، كل فريق يلوم الآخر ويبرئ نفسه حتى يقضى الأمر، فيقف الشيطان ليخطب خطبته الشهيرة مبيناً أن كل فريق لا يلوم إلا نفسه {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]  

رابعاً: اعتراف الأتباع بجرائمهم وندمهم وحسرتهم

     يقرر الله تعالى الأتباع، أين الذين اتبعتموهم ووقفتم معهم ودافعتم عنهم وبذلتهم لهم الوقت والقوة والكرامة والطاقة والجهد والعمل، إنهم أمامكم الآن، لا جاه ولا قوة ولا سلطان، هم مثلكم ضعفاء أذلاء مصيرهم النار وبئس المصير، فهنا يعترف الأتباع أنهم أجرموا بحق الله وبحق أنفسهم ويرجون لو أن لهم عودة للدنيا ليبرؤوا من سادتهم وقادتهم، { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:96-102]، نعم يعترفون على أنفسهم وذلك ليثبتوا على متبوعيهم التهمة {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ ۖ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل:86]

يتحسرون ويتمنون لو أنهم يملكون قوة من أمرهم حتى يذيقوا أمراءهم وسادتهم من كأس الذل والهوان الذي شربوه، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]

خامساً: لعن الأتباع للمتبوعين والدعاء عليهم بالهلاك والبوار

يتيقن الأتباع أن العذاب آت لا محالة، وقد وصف الله عذابهم بقوله: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:96]، وتأمل للفظ {فَكُبْكِبُوا} فعل مضاعف من “كبوا” يدل على تكرير الفعل، يقول سيد قطب رحمه الله “كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم، بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف، فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه، وإنهم لغاوون ضالون، وقد كُبكبَ معهم جميعُ الغاوين”، فيعلو صوت الأتباع بالشتم واللعن والدعاء بالهلاك على من كان السبب في استحقاقهم العذاب، وإليك مشهد سورة الأحزاب الصاعق المزلزل: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:64-68]، وفي قراءة متواترة “ساداتنا” بالجمع، وفي قراءة متواترة أيضاً “والعنهم لعناً كثيرا”

مما سبق نجد أن قضية الاتباع قضية جوهرية في القرآن الكريم، قد تناولها القرآن من عدة جوانب مبرزاً أهمية إعمال العقل والفكر والبصر والبصيرة، وضرورة اتباع الهدى ومخالفة الهوى، وعدم الانسياق الأعمى والاتباع المقيت للطغاة والظالمين.

ولو أن الأمة استيقظت من غفلة الاتباع الأعمى، وخلعت عنها ثوب الذل والهوان، واتبعت رضوان الله تعالى لما تسلط عليها الطغاة والمجرمون واتخذوا أفرداها عبيداً، فإن الصنم لا يصنع نفسه بنفسه، وإنما يصنعه عبيده ومعظموه.

هذا باختصار حول أبرز اللقطات والمشاهد لقضية التبعية المقيتة في ضوء القرآن الكريم، وإن المفسرين في كتبهم كالرازي والزمخشري وابن عطية وابن عاشور وسيد قطب وغيرهم قد استطردوا وفصّلوا ووقفوا وقوفاً طويلاً متدبرين متأملين عظيم أمر هذه القضية عند تفسير آيات الأتباع والمتبوعين، وقد كتب أيضاً الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي في هذا الموضوع رسالة نافعة ماتعة سماها “الأتباع والمتبوعون في القرآن” أنصح بقراءتها، وآخر دعائي أن الحمد لله رب العالمين.

Exit mobile version