الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فقد أُبرِمَ مؤخرًا الاتفاق الثلاثي “أوكوس” بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، والقاضي بتقديم المساعدة الفنية الحساسة لبناء ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية لصالح أستراليا، وذلك في إطار تعاون عسكري وأمني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ونتج عن ذلك إلغاء أستراليا لصفقة شراء الغواصات من فرنسا، الأمر الذي ترتب عليه ردود أفعال متوقعة من حلفاء أمريكا (فرنسا خاصة وأوربا عامة) وخصمها الجديد في الحرب الباردة واستراتيجية الاحتواء (الصين) والمهم أن ذلك كله يأتي في سياق اضطراب داخلي أمريكي عميق وواسع أبرزته الانتخابات الأخيرة، وتراجع خارجي تمثل بصورة واضحة في الانسحاب المذل من أفغانستان، والذي وصفه الكاتب الأمريكي أندرو باسيفيتش بقوله: “الحرب الأميركية في أفغانستان انتهت بإذلال مرير، ولكنها ينبغي أن تكون أيضًا بمثابة جرس إنذار بأن عصر الامتياز الأميركي ذهب بلا رجعة… وأن ضرورة اللحظة الحالية توجب تعديل سياسة الولايات المتحدة تبعًا للظروف المتغيرة بسرعة”.
أولا: أمريكا بين التفكك الداخلي والتراجع الخارجي:
– في مقال له في مجلة “إيكونوميست” البريطانية، يقول فرانسيس فوكوياما: “استغرقت حقبة هيمنة السيادة الأميركية على العالم أقل من عشرين سنة، من لحظة سقوط جدار برلين عام 1989 إلى فترة الأزمة المالية في الفترة من 2007 – 2009، خلال تلك الفترة فرضت أميركا هيمنتها على عديد المجالات، العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد شكَّل غزو العراق عام 2003 ذروة الهيمنة والغطرسة الأميركية في العالم، حيث كانت تأمل أن تتمكَّن من وراء تلك الخطوة ليس فقط من إعادة تشكيل العراق وأفغانستان (التي اجتاحتها قبل عامين من غزو العراق) فحسب، بل إعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله.”
ويتابع قائلًا: “من الواضح أن أميركا قد بالغت في تقدير فاعلية قدرتها العسكرية في إحداث تغيير سياسي جذري، في حين قلَّلت من شأن أثر نموذج اقتصاد السوق الحر على التمويل العالمي، ولهذا انتهت هذه الحقبة بتعثُّر جيوشها في حربين، وحدوث أزمة مالية عالمية زادت الفوارق الهائلة التي أحدثتها العولمة التي تتزعَّمها الولايات المتحدة”.
ويرى فوكوياما أن تايوان ستكون الاختبار الأصعب للسياسة الخارجية الأميركية أكثر من أفغانستان، خاصة إذا تعرَّضت تايوان إلى هجوم صيني مباشر، والاختبار قائم أيضا في حال تعرضت أوكرانيا لغزو روسي.
– أندرو باسفيتش في مقاله الذي نشرته صحيفة واشنطن بوست يقول: “فن الحكم الناجح يربط المصالح بالظروف، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة قاد جيل من رجال الدولة أدرك هذه الحقيقة الجوهرية إعادة توجيه جذرية لسياسة الولايات المتحدة الأساسية، وكانت النتيجة نصف قرن من التفوق الأميركي العالمي، مشيرًا إلى نقطة أساسية ذكرها جورج كينان (الذي يعتبر مهندس الحرب الباردة والأب الروحي لاستراتيجية الاحتواء) في كتاباته عام 1948 عندما قال: “لدينا نحو 50 % من ثروة العالم، ولكننا نمثل فقط 6.3 % من سكانه. لذا فإن مهمتنا الحقيقية في الفترة المقبلة هي ابتكار نمط من العلاقات يتيح لنا الحفاظ على هذا الوضع من التفاوت” ويتابع باسفيتش قائلًا: “بحلول عام 2000 شكلت الولايات المتحدة 32.6 % من ثروة العالم، وبعد عقدين فقط تقلصت حصة أميركا من الثروة العالمية إلى أقل من 30 %، وفي الوقت نفسه كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل أميركا نفسها تتزايد بسرعة فائقة، مما ساهم في حدوث اضطرابات داخلية عميقة”.
– كريستوفر لاش يقول: “الوعد الحقيقي الذي تقدمه الحياة الأميركية نجده في الأمل في أن تكون الجمهورية التي تمثل مصدرًا لإلهام بقية العالم أخلاقيًا وسياسيًا، وليست مركزا لإمبراطورية العالم الجديدة”.
يشار إلى أن المقاربة التي توصل إليها كينان أولًا فيما عُرف بـ”البرقية الطويلة” في عام 1946، ثم نُشرت نسخة منقحة منها في مجلة “فورين أفيرز” في مقال بعنوان “مصادر الإدارة السوفيتية” تتمثل بأنه على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي يتمتع بأيديولوجية ثورية توسعية، فإنه يبقى كيانًا براجماتيًا على صعيد السياسة العالمية، ولذا من الممكن ردع الاتحاد السوفيتي عن التوسع العدواني واحتواء زيادة النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي الاستراتيجية الأقل خطرًا مقارنة بمواجهة عسكرية مباشرة يمكنها أن تقود إلى حرب عالمية أخرى، لينتج عن كتاباته والتأثر بها ما عرف بعقيدة ترومان وخطة مارشال وحلف الناتو، كما يشار إلى أنه بعد أسابيع قليلة من إرسال “الرسالة التلغرافية الطويلة”، ألقى رئيس الوزراء البريطاني السابق تشرشل خطابه الشهير “الستار الحديدي” في فولتون بولاية ميزوري، دعا الخطاب إلى تحالف أنجلو – أمريكي ضد الاتحاد السوفيتي الذي اتهمهم بإنشاء ستار حديدي من شتتين في بحر البلطيق إلى ترييستي في البحر الأدرياتيكي، وهذه صورة توضح أن التاريخ يكرر نفسه في اتفاق أوكوس الحالي.
ثانيًا – فرنسا والاتحاد الأوروبي والناتو:
شكل تحالف أوكوس الانجلو – ساكسوني صفعة قوية مباشرة لفرنسا نتج عنها خسارة صفقة الغواصات مع أستراليا من ناحية، وإقصاء متعمد غايته إرسال رسالة تأديبية لفرنسا خاصة ولأوروبا عامة مضمونها أن دعوات الاعتماد الذاتي على قوة أوربية خاصة والخلافات البارزة على إثر الانسحاب المذل من أفغانستان لن تمر بدون تأديب من قبل الحليف الأمريكي، وفي هذا السياق تفهم التصريحات الفرنسية والأوروبية.
– وزير الخارجية الفرنسي: نشعر بالخيانة والغضب والمرارة بسبب إلغاء أستراليا صفقة الغواصات.
– وزير الخارجية الفرنسي: الأمن والسيادة الأوروبيين في خطر ويجب تعزيز الدفاع الأوروبي ولكن هذا لا يعني مغادرة حلف الناتو.
– السفير الفرنسي السابق في أمريكا وإسرائيل “آرو” يقول: الناتو أكثر منظمة تقيم بأكثر من قيمتها الحقيقية، ويمكن اختصار الناتو بأنه طريقة لضمان بقاء أمريكا في أوروبا، ماذا سيحدث إن قرر الأمريكان الخروج من أوروبا بصمت؟
ورغم الرسالة التأديبية التي لاقت ردود غاضبة خاصة من فرنسا مثلتها التصريحات وسحب السفراء إلا أن أوروبا العجوز وأمريكا المهتزة لا يمكنهما فك التحالف المصيري خاصة مع تصاعد الخطر الصيني والروسي.
ثالثًا – الصين القطب الجديد في الحرب الباردة المتجددة:
تحالف “أوكوس” تلقته الصين بمعرفة وتوقع؛ فالصراع ليس جديدًا وتايوان محطته الأبرز والأقرب، وفي هذا السياق تفهم التصريحات:
– السفارة الصينية في واشنطن: الاتفاق الأمني بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا يعكس “عقلية الحرب الباردة”.
– الخارجية الصينية: أمريكا وبريطانيا وأستراليا يدمرون السلام والاستقرار الإقليمي بعد صفقة الغواصات النووية.
كما تفهم الخطوات العملية حيث عشرات الطائرات الحربية تنتهك المجال الجوي التايواني مرارًا، الأمر الذي دفع وزير الدفاع التايواني للتصريح بأن التوتر العسكري بين الصين وتايوان بلغ أعلى مستوياته منذ أربعة عقود، معتبرًا أن بكين ستكون قادرة على القيام باجتياح كامل للجزيرة في 2025.
رابعا – العالم الإسلامي:
كقاعدة فإن “خصومة” القطبين ومحاورهما لا تمنع من تحالفها وحتى توحدها في “عداوة” الخطر السني المهدد، وبلدان العالم الإسلامي كانت ولا زالت موضع صراع على النفوذ والمصالح بين الأقطاب ومحاورها، والواقع الحالي الذي يشهد:
– تتمة إفشال ثورات الشعوب المسلمة عبر الثورات المضادة.
– صعود طالباني قوي ومؤثر وصعود مستمر للجماعات الجهادية في إفريقيا.
– بروز تكاملي بين حلف الشرطي الصهيوني وحلف الشرطي الإيراني الصفوي التمددي.
– تمدد روسي وصيني وتراجع أمريكي وأوروبي في آسيا وأفريقيا.
يوضح معالم الفترة القادمة التي تحتاج فيها الشعوب المسلمة عامة ونخبها خاصة لوعي المرحلة جيدًا وقراءة الواقع بشكل صحيح وصولًا لاستفادة راشدة، والله الموفق.