الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
وقفات مع قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43-42].
*معنى الكبر:
جاء في الحديث النبوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ» صحيح مسلم، قال صاحب تاج العروس: “الكِبْرُ: حالةٌ يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره”، وقيل الكبر هو: “استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له”.
والكبر صفة ثابتة لله عز وجل وحده لا يُنازع فيها، قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:37] قال مجاهد: “أَيْ هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ، فَقِيرٌ إِلَيْهِ”، فمن نازعه هذه الصفة أو شاركه فيها قصمه وأذله وأهانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقولُ اللَّهُ سبحانَهُ الكِبرياءُ ردائي والعظَمةُ إزاري مَن نازعَني واحدًا منهُما ألقَيتُهُ في جَهنَّمَ»، والأحاديث الواردة في عقوبة منازعة الله لصفة الكبر كثيرة مخيفة لما حوته من التحذير الشديد والعقاب والوعيد.
– الإعراض عن الحق أصل الضلال:
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [فاطر:42] فلم يكن ضلالهم بسبب غياب نذير خاص بهم والدليل أنهم كانوا يعلمون بوجود الرسل وازداد بعدهم عن الحق حين جاءهم النذير، فلا يزيد النور القلوب العمياء إلا عمىً وضلالًا، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126] فالجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] أي: جزاءً موافقًا لأعمالهم وما فعلوه في الدنيا، فمن تعامى عن الحق أعمى الله بصيرته في الدنيا والآخرة، ومن نسي الحق نسيه الله في الدنيا والآخرة، ومن آذى الناس آذاه الله في الدنيا والآخرة ومن ضيق على الناس وعذبهم ضيق الله عليه وعذبه في الدنيا والآخرة، وهذا كله {جَزَاءً وِفَاقًا} لأعمالهم وما اقترفته أيديهم {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
– الكِبْرُ من أهم أسباب هذا الإعراض:
قال تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:43] فهذا سبب ازدياد نفورهم بعد مجيء النذير لهم وهو الاستكبار في الأرض مع وجود العلم وعدم الجهل؛ فإن عاقبة التكبر الابتعاد والصرف عن الحق والهداية بالكلية رغم العلم، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:234] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أَيْ: يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أَيْ: مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ مِنْ إِخْمَالِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ”.
فالكبر عند الجُهّال هو التعلق بالسلطة والعلو في الأرض حيث يمنعهم من الانقياد للحق، قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] وما أكثر الجُهَّال في زماننا اليوم في دهاليز السلطة.
– المكر السيئ سبيل المعرضين:
قال تعالى: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} المكر السيئ سبيل المتكبرين الذين أعرضوا عن اتباع الحق وأرادوا أن يضل الناس فينحرفوا أيضًا عن جادة الصواب، كما كان حال فرعون مع قومه عندما أعرض عن الحق وأراد أن يمكر بموسى ومن معه فقال لقومه وهو يزين لهم مكره: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
وجاء في موقف آخر حين كان يعرض موسى عليه السلام الحق على فرعون ويبين الدين القويم فاتهمه فرعون بالجنون، ولما كان موسى عليه السلام ثابتًا ما كان من فرعون إلا أن قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وهذه طريقة الطغاة في التعامل مع المصلحين والدعاة حين يرفضون النزول عند رغبتهم وما يريدون.
– ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله:
يقول الإمام السعدي في تفسيره رحمه الله: “{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل {إِلَّا بِأَهْلِهِ} فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات، أنهم كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد اللّه كيدهم في صدورهم”.
والتاريخ مليء بنماذج من الطغاة والأمم المتكبرة فيها العظة والعبرة لمن أراد أن يذكر أو يحذر، فهذا إبليس كبير المتكبرين بعد أن كان من أقرب المقربين من رب العالمين أصبح من المبعدين، يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فاستحق اللعن والطرد مباشرة من الله عز وجل: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيۡكَ ٱللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} [الحجر:34-35]
وأجمل الله عاقبة قومٍ من المتكبرين فقال سبحانه: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40-38].
فلنحذر الكبر؛ فهو نقيض الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى في ثواب المؤمنين وعقاب المتكبرين: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء:173]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» رواه مسلم.
والعاقبة والفوز والنجاة لعباد الله المتقين الهينين اللينين؛ فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل» أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطَّاعة، وملاطفتهم قدر الطَّاعة، سهل أي: في قضاء حوائجهم، أو معناه: أنه سمح القضاء، سمح الاقتضاء، سمح البيع، سمح الشِّراء.
اللهم ارزقنا قلبًا سهلًا هينًا لينًا، واجعل قلوبنا رحيمةً ذليلة للمسلمين شديدةً عزيزةً على الكافرين، وانتقم من الطغاة والبغاة والظالمين والمجرمين والمتكبرين، اللهم وولِّ أمر المسلمين من يرحمهم وييسر عليهم دينهم ودنياهم، وأبعد عنهم من يشق عليهم دينهم ودنياهم، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.