{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} – مجلة بلاغ العدد ٦٤ – صفر ١٤٤٦ هـ

الآنسة: خنساء عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

أختك في الرمضاء تطالب بالمخطوفين وأنت في المزرعة تسبحين؟

أختاه:

إليك هذه القصة لعلها تكون عبرة لنا في هذه الأيام الخطيرة:

ذات يوم في الأندلس استدعى القائد التابعي عبد الرحمن الغافقي أحد كبار المعاهدين من أبناء فرنسا وأدار معه حديثًا متشعبًا ثم قال له:

ما بال ملككم الأكبر شارل لا يتصدى لحربنا ولا ينصر ملوك المقاطعات علينا؟

فقال: أيها الأمير إنكم وفيتم لنا بما عاهدتمونا عليه، فمن حقكم علينا أن نصدقكم القول فيما تسألون عنه:

إن قائدكم الكبير موسى بن نصير قد أحكم قبضته على إسبانيا كلها ثم طمحت همته بأن يجتاز جبال البرنيه التي تفصل بين ديار الأندلس وبلادنا الجميلة، فجفل ملوك المقاطعات وقساوستها الى ملكنا الأعظم وقالوا له: ما هذا الخزي الذي لصق بنا وبحفدتنا أبد الدهر أيها الملك؟ فلقد كنا نسمع بالمسلمين سماعاً ونخاف منهم ونخاف وثبتهم علينا من جهة مشرق الشمس وهاهم أولئك قد جاءونا الآن من مغربها فاستولوا على إسبانيا كلها وامتلكوا ما فيها من العدة والعتاد واعتلوا قمم الجبال التي تفصل بيننا وبينهم مع أن عددهم قليلٌ وسلاحهم هزيلٌ وأكثرهم لا يملك درعًا تقيه ضربات السيوف أو جواداً يمتطيه إلى ساحات القتال، فقال لهم الملك: لقد فكرت فيما عنّ على بالكم كثيرًا، وأمعنت النظر فيه طويلاً، فرأيت أن لا نتعرض لهؤلاء القوم في وثبتهم هذه فإنهم كالسيل الجارف يختلعون كل ما يعترض طريقه، ويحتمله معه ويلقي به حيث يشاء، ووجدت أنهم قومٌ لهم عقيدةٌ ونيةٌ تغنيان عن كثرة العدد ووفرة العُدد ولهم إيمانٌ وصدقٌ يقومان مقام الدروع والخيول، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا لأنفسهم الدور والقصور ويستكثروا من الإماء والخدم ويتنافسوا فيما بينهم على الرئاسة فعند ذلك تتمكنون منهم بأيسر السبل، وأقل الجهد.

فأطرق عبد الرحمن الغافقي إطراقةً حزينةً وتنهد تنهداً عميقًا وفض المجلس وقال: حي على الصلاة فقد اقترب وقتها.

وتحقق ما قاله ملكهم فركن أهل الأندلس للدنيا وتوسعوا باللهو والترف وشغلتهم صغائر الأمور بينما الأندلس تسقط مدينةً تلو الأخرى وهم عن التذكرة معرضون وفي الترفيه واللهو غارقون، إلى أن بقيت مع المسلمين غرناطة فقط ثم سقطت غرناطة أيضاً بعدما تحقق فيها كل أسباب سقوط الدول وفُقد هذا الفردوس من أيدي المسلمين، وها نحن اليوم نسير بنفس الطريق لا نتعلم دروسًا من التاريخ.

سُقت هذه القصة لأنني أصبحت أرى بأم عيني كيف أننا نعيش في وسط هذه الأحداث الخطيرة في غيابٍ كاملٍ عن الواقع وكأننا قد حررنا كل الأرض وكأنه لا يوجد عدوٌ يتربص بنا وكأن ضروريات العيش كلها توفرت ولم يبق إلا الكماليات، وما هذا الذي يحصل إلا من سوء التفكير الذي تلحق به العاقبة الوخيمة.

فنحن في وضعٍ خطرٍ ومهما نصح الناصحون فالاستجابة ضعيفةٌ إن لم تكن معدومةً وإلا فما معنى أن نرى نساءً يعانين الأمرّين ويخرجن للشارع في ظروفٍ صعبةٍ وتحت الشمس الحارقة وهن يطالبن بأزواجهن أو أبنائهن المخطوفين!! ونساءٌ يذهبن إلى الاستراحات والمزارع والمسابح ولا يشعرن بالحياء من أنفسهن من الانشغال باللهو واللعب!! وأخواتهن في الشوارع تحت الشمس والعطش والتعب يجاهدن بأنفسهن.

على الأقل أيتها المرأة إن لم تشاركي أخواتك وتؤازريهن لضعفك أو ظروفك أو موانع أخرى فاتركي اللهو واللعب وانشغلي بالتضرع إلى الله والدعاء والذكر والدعوة إلى الله ونشر الوعي عسى أن يغفر الله لك تقصيرك بحق أخواتك المسلمات، أما أن تعملي العكس وتنشغلي بالتوافه في هذا الوقت فهذا مما يذيب القلب من كمدٍ على حالنا الأليم، لا بل إن الذهاب للمزارع في هذا الوقت الخطير صار منتشرًا جدًا وطبيعيًا جدًا، والويل للرجل الزوج أو الابن أو الأخ الذي يرفض الذهاب للمزارع -إن وجد هذا الرجل-

وأين!!!! في هذه المنطقة المهددة في كل لحظةٍ بتشريد أهلها وتمزيقهم كل ممزقٍ وسيطرة النظام ودخوله والله المستعان.

كيف نلهو والأمر جد خطر؟

كيف نلعب والعدو متربصٌ بنا؟

كيف نسهو والمجازر في الشام من إدلب وغزة والسودان وغيرها في كل يوم؟

نذهب إلى المسابح والملاهي وفي هذا الوقت واخجلتاه من رب العالمين،

عيب علينا في هذا الوقت وفي هذه الظروف.

أختاه!!

انتبهي قبل فوات الأوان خذي الأمر بالجد قبل الندم فالواقع لا يحتمل ما تقومين به من انشغال بالتوافه والتوسع بالمباح.

أختاه كوني حزام أمان للأمة المسلمة المستضعفة في الأرض ولا تزيدي الطين بللاً.

 

أخرج البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى».

أختاه نحن بحاجة لمن تربي لنا رجالاً كصلاح الدين الأيوبي

وقطز ومحمد الفاتح وهذا يحتاج منك همةً عاليةً وتجردًا لله عز وجل وصبرًا.

وأجرك على الله في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، في يومٍ يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، في يومٍ تُوزع فيه الجوائز للعاملين الصابرين المحتسبين، فكوني سبب نصر هذه الأمة، لا سبب فشلها وخذلانها.

أختاه.. نحن بحاجة لأمهات مثل أم إبراهيم الهاشمية التي قالت: “اللهم إني أُشهدك أني قد زوجت ولدي هذا من هذه الحورية، ببذل مهجته في سبيلك، وترك العودة إلى الذنوب، فتقبله مني يا أرحم الراحمين ثم انصرفت، فجاءت بعشرة آلاف دينار، ثم قالت: يا عبيد هذا مهر الحورية، تجهز به، وجهز به الغزاة في سبيل الله، ثم انصرفت، فاشترت لولدها “إبراهيم” فرساً جيداً، وسلاحاً ثقيلاً، وخرج الجيش للقتال وهم يرددون قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] فلما أرادت “أم إبراهيم” فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً وقالت: “أي بني إذا أردت لقاء العدو، فتكفن بهذا الكفن وتحنط بهذا الحنوط، وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها، وقبلت ما بين عينيه وقالت: لا جمع الله بيني وبينك، إلا بين يديه في عرصات القيامة!!

أختاه.. نحن بحاجة لأمهات صنعن التاريخ كأمثال: أُم الإمام مالك بن أنس وأُم الإمام الشافعي وأُم معاوية بن أبي سفيان وأُم الإمام البخاري وأُم محمد الفاتح.

أختاه.. قليلٌ من التعقل يجنبك كثيراً من الفتن، لم هذا الانسياق وراء الهوى، لم هذا التعلق بزينة الحياة الدنيا، أين تميز المؤمنة؟ أين اعتزاز المؤمنة بسيرة أسلافها الصالحات، ذهب كل هذا أدراج الرياح يوم ركضت لاهثة وراء التوافه وهدفك الدنيا والدنيا فقط، والدارج من القيم التافهة التي طفت على سطح المجتمع، فيا حسرةً عليك خسرت وتعبت وأتعبت، يكفيك خسارةً عندما شاركت الفاسقات والدنيويات بما يفتخرن به ويتباهين فيه وزهدت بما تعتز به المؤمنة عندما تستعلي بإيمانها عن الدنيا وما فيها، ارجعي إلى نفسك وثوبي إلى رشدك وربي لنا الأبطال، فالمنازل العالية في الجنة لا تنالها من تهوى الدنيا إنما تنالها من تحب ما يرفع المؤمنة عند ربها جل في علاه وكوني سبباً في رفع الأمة من ذلها ومهانتها، ولا تكوني حجر عثرةٍ في طريق النصر لأن هذه الحجرة ستتدحرج يوماً ما تحت أقدام الصالحين ممن باعوا الرخيص العاجل بالغالي الآجل {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [محمد:38] ولا ينفع أحداً نسبه إن لم يقم بحقه ولا الشعارات التي يرفعها إن تخلى عنها خوفاً من انتقاد المجتمع.

أختاه.. ليتك تسمعين النداء ولا تعرضين عنه، أما أنا فأفوض أمري إلى الله فهو ناصر عباده المؤمنين الصالحين من بعد استضعافهم في الأرض بين أناس لم يتقوا الله فيهم {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

فاللهم أنقذنا من الانزلاق في الدنايا واحفظنا واجعل فرجك القريب على عبادك الصالحين واجعلنا من فسطاط الإيمان في زمن الفتن والآثام إنك ولي ذلك والقادر عليه يا الله، وصلى الله على سيدنا محمد إمام المرسلين من الأنبياء وقائد الغر الميامين.

Exit mobile version