في ظلال شعبان – مجلة بلاغ العدد ٤٦ – شعبان ١٤٤٤هـ

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

* لقد جعل الله -تعالى- لكل وقت وظائف لعباده يتقربون بها إليه، فمنها ما يتكرر كل يوم كالصلوات الخمس، ومنها ما يتكرر كل أسبوع كصيام الاثنين والخميس وصلاة الجمعة، ومنها ما يتكرر كل شهر كصيام الأيام البيض، ومنها ما يتكرر كل عام في رمضان والحج وشعبان.

ولقد فضَّل الله -تعالى- هذه الأوقات على غيرها في مضاعفة الحسنات وإجابة الدعوات وحصول المغفرة والرضوان؛ ليجتهد العبد في طاعة ربه.

وهذه الأوقات الفاضلة هي مراكز ومحطات تَمنح المؤمن رصيدًا من الإيمان والتقوى؛ وكل يوم في هذه الدنيا غنيمة يتزود منه المؤمن لآخرته، فكيف إذا كان هذا اليوم له مكانة أكبر عند الله عز وجل؟!

 

* لَقَدْ هَلَّ عَلَيْنَا شَهْرُ شَعْبَانَ لِيُقَرِّبَنَا أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ مِنْ رَمَضَانَ شَهْرِ الْخَيْرَاتِ فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ كَيْفَ كَانَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ»، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وعَنْ حِبِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيِمَانِ، ذكر ابن رجب -رحمه الله- في شرحه: “شهر يَغْفُل الناسُ عنه بين رجب ورمضان، يُشير إلى أنه لَمَّا اكتنَفَه شهرانِ عظيمانِ؛ الشهرُ الحرامُ وشهرُ الصيامِ اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه..، فيشتغلون بالمشغول عنه ويفَوِّتُون تحصيلَ فضيلة ما ليس بمشهور عندهم”.

* وَأَمَّا حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي شَعْبَانَ فَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ شَهْرُ شَعْبَانَ، أَقْبَلُوا عَلَى مَصَاحِفِهْمِ فَقَرَأُوهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ لِيُعِينُوا غَيْرَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي رَمَضَانَ. وَتَرَكُوا الْكَثِيرَ مِنْ مَشَاغِلِ الدُّنْيَا، وَأَخَذُوا يَسْتَعِدُّونَ فِيهِ لاِسْتِقْبَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَكْثَرُوا فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَالْقِيَامِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عَنْ شَهْرِ شَعْبَانَ: إِنَّهُ شَهْرُ الْقُرَّاء.

* عباد الله: وشهر شعبان شهر قد اختُصَّ بفضائلَ جمَّةٍ؛ فينبغي على المؤمن أن يكون مسارِعًا إليها، مبادِرًا لاغتنامها، روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: «لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله»، ولكن رواية صومه كله محمولة على الأكثر والمعظَم منه، كما بيَّنه ابنُ المبارك وابن حجر رحمهما الله؛ لرواية مسلم: «كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلا»، قال ابن رجب -رحمه الله-: “إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور”؛ يقصد بذلك الصوم المطلَق، وقال الصنعاني -رحمه الله-: “وفيه دليل أنه -صلى الله عليه وسلم- يخصُّ شهرَ شعبان بالصوم أكثر من غيره”.

* بادِرُوا في هذا الشهر إلى ما يقربكم إلى المولى -جل وعلا-، فهو شهر فاضل، وكان يسمَّى عند السلف: “شهر القُرَّاء”؛ لكثرة مراجعتهم للقرآن الكريم، وانقطاعهم لتلاوته، والتزامهم بمعاهدته والإكثار من قراءته استعدادًا لقيام رمضان، فالمبادرةَ المبادرةَ، والمسارعةَ المسارعةَ لإعمار هذا الشهر بالقربات وسائر النوافل والطاعات.

* فعظّموا هذا الشهر بعمارته بسائر الطاعات والقربات خصوصًا الصيام، ومن لم يستطع ذلك فلا أقل من أن يكف عن المعاصي فيه تعظيما لمكانته، ولئلا يرفع له عمل فيه يسخط ربه -عز وجل-.

* ولا يُشرع تخصيص يوم النصف من شعبان من دون سائر الشهر بصيام، ولا ليلته بقيام ولا ببعض الأدعية والأذكار وإنشاد بعض الأشعار، لعدم ثبوت ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما جاء في أحاديث ضعيفة أو موضوعة مكذوبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال ابن رجب وغيره من أهل العلم، وكل هذا لا تقوم به حجة ولا يُعمل به في الأحكام.

أما من كان من عادته قيام الليل، فلا يترك قيام الليل في تلك الليلة، ومن كان من عادته صيام النوافل فوافق ذلك يوم النصف من شعبان فليصم ولا يترك الصيام، وكذلك من كان من عادته أن يصوم في شعبان فليصمه اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-.

* ومن كان عليه قضاء أيام من رمضان وخاصة النساء فليبادر لصيام ما عليه من أيام رمضان في شهر شعبان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

Exit mobile version