الأستاذ: أبو يحيى الشامي
في أيِّ سبيلٍ؟
يتكرَّرُ هذا السؤالُ كلَّما ثارت ثائِرةُ الشَّعبِ المُسلمِ ضدَّ طاغيةٍ أو مُحتلٍّ، وينقسمُ النَّاسُ إلى أقسامٍ في الحكمِ على هذا الحراكِ، وإن الذينَ يهتمونَ بالحُكمِ الشَّرعيِّ على الأعمالِ والحركاتِ قلةٌّ في كثرةٍ كاثِرةٍ، هذه الكثرةُ هي القسمُ الأولُ والأكبرُ، وهم الذين ينظرون إلى الحَدَثِ نظرةً ماديَّةً أو عاطفيَّةً إنسانيَّةً في أحسنِ الأحوالِ، مع أنهم مسلمونَ لكنهم غائبونَ مُغيَّبون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله في تفسير هذه الآية: “بلغَ واللهِ مِنْ علمِ أحدهمْ بالدنيا أنه يَنقُدُ الدِّرهمَ فيخبرُكَ بوزنهِ ولا يُحسِنُ أن يُصَلِّي”، نقلتُ شرحَ الحسنِ رحمه الله هنا، لكي لا يظنَّ ظانٌّ أن الآية في الكافرين فقط، ولكي يعلمَ أن الغفلةَ في أناسٍ من الأمةِ كانت منذُ القرونِ الأولى، لكنها تزداد مع تقدمِ الزمان، ويَصلُحُ أمر الأمةِ بالقلةِ الصالحةِ المصلحةِ، والناسُ لهم في ذلك تَبَعٌ.
لكن هل النظرةُ الماديةُ في مصلحةِ المجتمع المسلم؛ والنظرةُ العاطفية الإنسانية مذمومةٌ على كلِّ حالٍ؟!، بالتأكيدِ لا، فإن قيامَ هذا الأمرِ ودوامَهُ لا يكون على أكتافِ القلةِ، بل على أكتافِ الكثرَةِ وإن تعددت واختلفت نياتُهُم، فاللهُ ينصرُ الدينَ بالرجلِ الصالحِ وبالرجلِ الفاجرِ، وكلٌّ يحشرُ ويحاسبُ على نيَّتِه.
هذه الأسبابُ والنتائجُ الجماعيَّةُ دائمةٌ مطَّرِدَةٌ قَدَراً، وإن كانت انطلاقةُ العملِ الصالحِ تبدأُ بهِمَّةِ وسعيِ القلَّةِ الصَّالحةِ المُصلحة، كفتيلٍ صاعقٍ أو محرِّكٍ دافعٍ أو شِراعٍ أو دفَّةِ توجيهٍ، وإن هذا القسمَ الأكبرَ هينٌ ليِّنٌ مطواعٌ ينقادُ إلى الخيرِ ويفرحُ به، إن اهتدى السَّبيلَ وأمِنَ الصَّدَّ عنه.
القسمُ الثاني هم المتَنَطِّعون الغلاةُ الذين خرجوا على الأمةِ أو يَكادُونَ، لا يرون في قِلَّتِها ولا كثرتِها خيراً ويتهمونَ تحرُّكَها، ويسارعونَ في صدِّ النَّاسِ عن الخيرِ، يحكمونَ أنهُ ليسَ في سبيلِ الله، لسوءِ طَوِيَّةٍ جعلت كلَّ واحدٍ منهم يَتقَحَّم على النِّيَّةِ فيتهمُ أهلها، والنِّيَّةُ يصعبُ على صاحبها ضبطُها والحكمُ عليها، فكيف بالغيرِ!، سبحانَ اللهِ هو وحدهُ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]، وقد قال جلَّ شأنه: {وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
هذا القسمُ جاهلٌ جاحدٌ للفطرةِ والسُّننِ الكونيَّةِ، والسياسةِ الشرعيةِ والسُّننِ النبويةِ، يحصرُ الخيرَ فيهِ وفيمن معهُ، يُحَجِّرُ الواسعَ ويُضيِّقهُ، وبدلاً من تبشيرِ الناسِ ودعوتهِم يُنفِّرهُم باتهاماتِه وادعاءاتِه، ويرى أن المَرحليَّةَ وتحقيقَ المطلوبِ وفقَ المعطياتِ القدريَّةِ القائمةِ تهاونٌ وضلالٌ، إذ لا بد عنده من القفزِ إلى أعلى قمةٍ ورفعِ أكبرَ وأخطرَ شعارٍ، ليعطي ختمَ حكمهِ ويثني على القافِزِ الرافِعِ، وإن هلكَ وأهلكَ.
القسمُ الثالثُ هم الذينَ ينكرونَ فاعِليَّةَ أمَّتِنَا، ويَعزونَ أي فعلٍ إلى أعدائِها، ولها ردودُ الأفعالِ، أو أن أبناءَها يتحركون وِفقاً لمخطَّطٍ أو أوامرَ من جهاتٍ أخرى، فهؤلاءِ المنبهرونَ بالعدوِّ يرونه قادراً قدرةً مطلقةً على المبادرةِ وحسابِ العواقبِ وتوزيعِ الأدوارِ، ولا مناصَ من الاستسلامِ له أو التَّماهي معه.
وإن الحِرصَ الذي يبدونه على مُقَدَّراتِ الأمةِ وطاقاتها، جزءٌ من دعايتهم التي يروجونَ بها نظريةَ عجزِ الأمةِ عن المواجهةِ ووجوبِ استسلامها للواقعِ المرسومِ لها من أعدائها، وفي سبيل ذلك يُشكِّكونَ في أي حركةٍ خارجَ هذا الواقعِ الذي يريده الأعداء، يتهمونَ من تحركَ بالتبعيةِ لهذا أو لذاكَ حسبَ تحليلاتِهم السَّمِجَةِ وعزيمتِهِم الخائِرَةِ.
القسمُ الرابعُ هم المُتَيَمِّنونَ، الذين ينظرون إلى أحسنِ ما في الفعلِ فيحكمون بموجبهِ، ويرجون الخيرَ وينمونه، فيقول لسانُ حالِهم ومقالِهم لأيِّ عملٍ يقومُ به فردٌ أو جماعةٌ من المسلمين: “كُنْ في سبيلِ الله.. كُنْ في سبيلِ الله”، فالأصلُ عندهم التوحيدُ والفطرةُ السليمةُ وما بُنِيَ على هذا الأصلِ يُرجى أن يكونَ أصيلاً يُفضي إلى خيرٍ.
وإن مفهومَ “العمل في سبيلِ الله” أوسعُ مما يَظنُّ كثيرٌ من المحجِّرينَ، والقتالُ جزءٌ منه، وما يجعلُ أيَّ عملٍ في سبيلِ الله، هو ذاتُهُ ما يجعلُ القتالَ في سبيلِ الله، والعكسُ بالعكسِ، عن كعبِ بن عجرةَ رضي الله عنه قال: مرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فرأى أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطِه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن كان خرجَ يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرجَ يسعى على أبوينِ شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسهِ يَعُفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان” رواه الطبراني في الكبير (19/129)، قال المنذري في الترغيب (2/688): “رجاله رجال الصحيح”، وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
إن ما أوجبَ الله حِفظَهُ بعد الدِّينِ كثيرٌ، فإن حقق الإنسان في نفسه الدِّينَ وسعى للتحررِ من أعدائهِ ودحرهِم، وإن كان بالمرحليةِ والأولوياتِ، فهذا فيه خيرٌ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، وفي الحفاظ على النفسِ والعقلِ والعرضِ والمالِ خيرٌ، وفي الحفاظِ على مُتطلَّباتِها التي لا تكونُ إلا بها خيرٌ، من فعل ذلك لأن الله أوجبهُ فهو في سبيلِ الله، ومن قُتلَ دون ذلك فهو شهيدٌ، عنْ سعيدِ بنِ زَيْدِ رضي الله عنه، قَالَ: سمِعت رسُول اللَّهِ ﷺ يقولُ: “منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”. رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وفي هذا البابِ على المسلمِ الحريصِ الذي يعلمُ الغايةَ ويسعى إليها، وهي تمكينُ الدِّينِ والخضوعُ والإخضاعُ له، عليه أن يسعى في استحضارِ النِّيَّةِ وتذكيرِ المسلمين بها، فَرُبَّ عاملٍ يَحضُرُ العملَ ولا يستحضرُ نيته، ومنهم من يجهل أنه في سبيل الله أساساً، فيَضيعُ عليه الأجرُ والمكانةُ، وللعلاجِ لا يصحُّ نَهيُهُ ولا زَجرُهُ عن العملِ، بل يؤمرُ به ويُذَكَّرُ بنيته، وهذا من الدعوةِ إلى اللهِ ومن التَّحريضِ على الجهادِ في سبيله عامةً، والقِتالِ خاصَّةً.. القِتالِ خاصَّة، قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء: 84].
نسأل الله أن يرزقنا النية الخالصة والعمل الصالح، وأن يصلحنا ويصلح بنا، اللهم آمين.