جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتَبَ عليكم الصيام كما كُتِبَ على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة:183].
رمضان شهر النفحات والرحمات والخيرات، فلا تغفلوا عن بركته وفضله، ففي الأخبار والآثار، إنّ لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها.
استقبلوا شهر الخير بالخير، استقبلوا شهر التوبة بالتوبة، استقبلوا شهر الرحمة بالرحمة، استقبلوا شهر الإحسان بالإحسان، استقبلوا شهر الجود بالجود، استقبلوا شهر الصيام بحُسنِ الصيام، استقبلوا شهر القيام بطول القيام، استقبلوا شهر القرآن بكثرة قراءة القرآن وعدد الختمات، استقبلوا شهر الدعاء بالدعاء، استقبلوا شهر القرب من الله بالقرب منه جلّ جلاله.
فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
*تفضيل رمضان:
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، قال أهل العلم رحمهم الله: “إنما خصَّ الله شهرَ رمضان بفرض الصوم لِما حصل للناس فيه من إكمال النعمة عليهم بإنزال القرآن، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «نزلَتْ صُحُفُ إبراهيمَ أوَّلَ ليلَةٍ من شهرِ رمَضَانَ، وأُنزِلَتِ التوراةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ من رمَضَانَ، وأُنزِلَ الإنجيلُ لثلاثَ عشْرَةَ مَضَتْ من رمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وعشرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ»” رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني رحمه الله.
قال ابنُ سعدي رحمه الله: “فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُه، وهذا إحسانُ الله عليكم فيه، أن يكون موسماً للعبادِ مفروضاً فيه الصيام”.
وقال ابنُ عاشور رحمه الله: “واختِيرَ شهرُ رمضانَ -أي لفرض الصيام- مِن بينِ الأشهُرِ لأنهُ قدْ شُرِّفَ بنُزُولِ القرآنِ فيهِ”.
*بعض عبادات النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان:
كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم في هذا الشهرِ الْمُباركِ يَخصُّ كتابَ الله بكبيرِ اجتهادٍ، فكان صلى الله عليه وسلم يَتدارسُ القرآنَ مع جبريلَ عليه السلام وذلك في كلِّ ليلةٍ من ليالي رمضان، وكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُطيلُ القراءةَ في قيامِ رمضانَ ما لا يُطيلُ في غيره، فعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: “كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجْوَدَ الناسِ بالخيرِ، وأجوَدُ ما يكونُ في شهرِ رمضانَ، لأنَّ جبرِيلَ كانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ ليلَةٍ في شهرِ رمضانَ حتى يَنْسَلِخَ، يَعرِضُ عليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ القُرآنَ، فإذا لقِيَهُ جبرِيلُ كانَ أجوَدَ بالخيرِ منَ الرِّيحِ المُرسَلَةِ” رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ: “كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْرِضُ الكِتابَ على جبريلَ عليهِ السلامُ في كُلِّ رَمَضانَ، فإذا أَصْبَحَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منَ الليلَةِ التي يَعْرِضُ فيها ما يَعْرِضُ، أَصْبَحَ وهوَ أَجْوَدُ منَ الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ، لا يُسْأَلُ عن شيءٍ إلا أعطَاهُ، فلَمَّا كانَ في الشهرِ الذي هَلَكَ بَعْدَهُ، عَرَضَ عليهِ عَرْضَتَيْنِ” رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر.
*رمضان والزمن:
إنّ الله جلّ جلاله فضّل بعض البشر على البشر كالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وفضّل بعض الأماكن على كل الأرض كمكة والمدينة والشام، وفضل بعض الأزمنة على سائر الأيام كشهر رمضان.
رمضان بالنسبة للزمان كجبريل عليه السلام بالنسبة للملائكة، وكالرأس بالنسبة للجسد، وكالقرآن للكتب، وكنبينا وسيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
*حال السلف مع القرآن الكريم وقيام الليالي:
كان قتادة رحمه الله يختم القرآن كل سبع مرة فإذا دخل رمضان ختمه كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر الأخير ختم كل يوم مرة.
وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه يُحيي الليل كُلَّه في ركعةٍ يقرأ فيها القرآن.
وقرأ تميم الداري رضي الله عنه القرآن في ركعة.
وقرأ سعيد بن جبير رحمه الله القرآن في ركعة داخل الكعبة.
قال ابنُ كثير: “وهذهِ كُلُّها أسانيدُ صحيحَةٌ”، ثم قال: “وعنِ الإمامِ الشافعيِّ رحمهُ اللهُ: أنهُ كانَ يَخْتِمُ في اليومِ والليلَةِ من شهرِ رمَضَانَ ختمَتَيْنِ، وفي غيرِهِ ختمَةً، وعن أبي عبدِ اللهِ البُخارِيِّ صاحبِ الصحيحِ: أنهُ كان يَختمُ في الليلةِ ويومِهَا من رمَضَانَ خَتْمَةً” رحمهم الله أجمعين.
وعن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: “أَتَيْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ليلةٍ من رَمَضَانَ، فقامَ يُصلِّي، فلمَّا كَبَّرَ قالَ: «اللهُ أكبَرُ ذُو الْمَلَكُوتِ والجَبَرُوتِ والكبرِياءِ والعَظَمَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ البقرةَ ثُمَّ النساءَ ثُمَّ آلَ عِمرانَ، لا يَمُرُّ بآيةِ تَخوِيفٍ إلا وَقَفَ عِندَها، ثُمَّ رَكَعَ يَقُولُ: «سُبحانَ ربِّيَ العظيمِ»، مِثْلَ ما كانَ قائماً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فقالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ربَّنا لَكَ الحَمْدُ»، مِثْلَ ما كانَ قائماً، ثُمَّ سَجَدَ يقولُ: «سُبحانَ ربِّيَ الأعلَى»، مِثْلَ ما كانَ قائماً، ثُمَّ رفَعَ رَأْسَهُ فقالَ: «رَبِّ اغفِرْ لي»، مِثْلَ ما كانَ قائماً، ثُمَّ سَجَدَ يقولُ: «سُبحانَ ربِّيَ الأعلى»، مِثْلَ ما كانَ قائماً، ثُمَّ رفَعَ رَأْسَهُ فقامَ، فمَا صَلَّى إلا ركعَتَيْنِ حتى جاءَ بلالٌ فآذَنَهُ بالصلاةِ” رواه أحمد وصحَّحه الألباني.
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: “أمَرَ عمرُ بنُ الخطاب أُبيَّ بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئُ يقرأ بالمئين، حتى كُنَّا نعتمدُ على العُصيِّ من طُولِ القيام، وما كُنَّا ننصرفُ إلا في فُروع الفجرِ” رواه مالك وصححه الألباني.
وفي روايةٍ: “وكانُوا يَتَوكَّئُونَ على عُصِيِّهِم في عهدِ عُثمانَ بنِ عفانَ رضي اللهُ عنهُ من شِدَّةِ القِيَامِ” رواه البيهقيُّ وصحَّحه النووي.
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»، وقيامه إيمانًا واحتسابًا هو: “إحياء لياليه بالعبادة والقيام؛ تصديقًا ورجاءً للثواب، وإخلاصًا في التقرب”، وقد قام صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعض ليالي رمضان”.
وعن أبي إسحاق الهمداني رضي الله عنه قال: “خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر في المساجد، وكتاب الله يُتلى؛ فجعل ينادي: ((نوَّر الله لك يا بن الخطاب في قبرك، كما نوَّرت مساجد الله بالقرآن))”.
ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام أبي محمد اللبان قال: “وكان يصلي في بغداد التراويح إمامًا بالناس فإذا انصرف الناس وقف وحده يصلي حتى آخر الليل رحمه الله”.
عجيب أمر تلك الأسرة:
عطاء بن أبي رباح التابعي الجليل، كان يعيش مع أمه وزوجته في البيت، فاتفقوا على تقسيم الليل ثلاثة أقسام، كل واحد منهم يُحي قسم من الليل، فتقوم أمه للصلاة ثلث الليل، ثم تفعل مثلها زوجته في الثلث الآخر، ثم يقوم هو ويصلي في الثلث الأخير.
وبعد فترة ومدة من الزمن ماتت أمه رحمها الله، فاتفق عطاء رحمه الله مع زوجته على تقسيم الليل نصفين كلّ واحد منهما يصلي نصف الليل رحمة الله عليهم.
أخي المسلم أختي المسلمة هذا طرفٌ من أخبارهم وشيءٌ من عبادتهم، وتذكيرٌ للناس بإقبال سلفهم على كتاب ربهم.
إنّ الأمة التي لا تصل حاضرها بماضيها لتبني مستقبلها على هدي وسنن سلفها الصالح أمةٌ ضعيفةٌ مهزوزةٌ تكثر أخطاؤها وعثراتها، فالله الله في شهرٍ عرفتم فضله وخيره، لا تقصروا فيه ولا تهملوا أوقاته ولا تحرموا أنفسكم من مغفرة ربكم ورحمته وجنته.
قال سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف عبد رغم أنف عبد رغم أنف عبد أدرك رمضان ولم يُغفر له»، واعلموا أنه لا يشقى على الله إلا شقي.
اللهم بارك لنا في رمضان واغفر فيه ذنوبنا واقبل فيه توبتنا وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا فيه الجنة من باب الريان مع الأبرار، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.