فضل السابقين إلى الجهاد || الركن الدعوي || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) تعددت أقوال العلماء والمفسرين في تحديد هؤلاء السابقين وما الذي سبقوا إليه، هل هم أهل السبق في الإسلام أم الهجرة أم الجهاد أم الإنفاق أم الاستجابة للدعوة أم الطاعة لله ورسوله، فيما نقل عن الضحاك ومجاهد وغيرهما: أن السابقين المذكورين في الآية هم: السابقون إلى الجهاد.

ولنعلم أنه كلما سبق الناس في الإسلام والجهاد والعبادة كانوا أفضل وأكثر في الخير والأجر والثواب فلنستمع إلى حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». فالسابقون من القرون قبلنا للهجرة أو الجهاد أو الطاعات هم أعظم وأكثر أجرا منا.

يقول الله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا) يقول السعدي رحمه الله: “المراد بالفتح هنا هو فتح الحديبية، حين جرى من الصلح بين الرسول وبين قريش مما هو أعظم الفتوحات التي حصل بها نشر الإسلام، واختلاط المسلمين بالكافرين، والدعوة إلى الدين من غير معارض، فدخل الناس من ذلك الوقت في دين الله أفواجا، واعتز الإسلام عزا عظيما، وكان المسلمون قبل هذا الفتح لا يقدرون على الدعوة إلى الدين في غير البقعة التي أسلم أهلها، كالمدينة وتوابعها، وكان من أسلم من أهل مكة وغيرها من ديار المشركين يؤذى ويخاف، فلذلك كان من أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك”.

 

ولنعلم عظيم أجر السابقين إلى الجهاد فلنستمع إلى عظيم الأجر الذي احتبى به المولى عز وجل أهل غزوة بدر الكبرى، أصحاب السبق في الجهاد، أهل الغزوة الإسلامية الأولى، أول وأعظم غزوة غزاها المسلمون رضي الله عنهم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اطلع على أهل بدر فقال: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».

والموقف العظيم الثاني لنعلم عظيم أجر السابقين إلى الجهاد هو في بيعة الرضوان يوم صلح الحديبية، حين علم الله عز وجل صدق المسلمين في بيعتهم على الموت في سبيله فأنزل تبارك تعالى فيهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة مبينا أجرهم وما منَّ عليهم به: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

 

* السابق للخير له أجره وأجر اللاحق:

كل من سبق في فعل الخير كان له أجره وأجر من اقتدى به بعده، كما في الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده…».

فإذا كان هذا أجر من عمل طاعة أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، فكيف بأجر من باع روحه ونفسه لله عز وجل وكان سببا في دخول الناس في دين الله أفواجا أو كف شر الطواغيت الذين يحاربون الناس في إسلامهم..؛ لذلك كان أجر السابقين إلى الجهاد من أعظم الأجور في الدنيا والآخرة؛ فبتضحيات السابقين إلى الجهاد تحيا الأمة قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وقد وُثق هذا الأجر في الكتب السماوية المتتابعة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

* من حقوق السابقين على اللاحقين:

– الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

– الصفح عن عثراتهم: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الحُدُودَ». قال ابن القيم رحمه الله: “من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبثٍ يقع فيه” انتهى كلامه.

* كيف يكون المرء خير خلف لخير سلف وخير سلف لخير خلف؟

– إخلاص النية لله تعالى، فالنية الصالحة تعوض المرء ما فاته من الخير الذي يحبه ويحرص عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر».

– اتباعهم بإحسان، قال الله عز وجل، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) قال الطبري في تفسيره: “وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامَهم، وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير”، فكل من اتبع أهل الإسلام من المهاجرين والأنصار فهو خير خلف لهم، وهو بنقله الصادق هديهم لمن بعده يكون خير سلف لمن يخلفه.

– حب السابقين والشوق لهم وتدارس أخبارهم: قال صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب».

* أسأل الله عز وجل أن يجعلنا خير خلفٍ لخير سلفٍ، وأن يجعلنا خير سلفٍ لمن هم خلفنا، نقيم الدين قولًا وعملًا وفهمًا، على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بكتاب يهدي وسيف ينصر، ونوصل ما جاءنا من دينٍ وعلمٍ وعملٍ وجهادٍ، ونحفظ أرضنا وعرضنا من الضياع أو الاحتلال، لتصل إلى الأجيال القادمة ممن هم بعدنا دون خلل أو نقص فيما أوتينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ

 

Exit mobile version