عبادات القائمين على الثغور (2) – كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٣ – المحرم ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

عند اجتماعِ عبادةِ القيام على ثغرٍ من ثغور الأمة -أو أكثر من ثغر- مع عبادات أخرى من العبادات الخاصة تتفاضلُ العبادات وتُوزَّع في الأوقات، وقد تتغيَّرُ هيئات بعضِ أهمِّ العبادات الفرائضِ لمراعاةِ الحفاظِ على عبادة حفظ الثغور، فحفظُ الثغورُ حفظ الأمة ودينها وعباداتها.

قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:238-239]، وقد ذكر المفسرونَ خوفَ العدوِّ أو حالةَ الالتحام معه في قتالٍ؛ فيما ذكروا من الخوفِ الذي يغيِّر هيئةَ الصلاةِ، وهي أهمُّ ركن من أركانِ الإسلام بعد التوحيد.

وقال الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء:102] وفيه تعليمُ صلاةِ الخوفِ على الثغور أو عند اصطفاف الفريقين، فهذا زمانُ ومكانُ اجتماع عبادتين إحداهما لحفظ الأخرى وإن كانت مقدمةً من بين الأركان، فتغيرت هيئة الصلاة لضرورةِ حفظِ ما يحفظها.

وإن كان الانشغالُ عن بعض العبادات مذموماً إلا أن ذلك الانشغالَ إن كان في عباداتٍ أخرى فذلك اعتذارُ المرء إلى ربه جل وعلا، وهذا الاعتذار ذكر في المآثر، فقد ذكر الحافظ ابن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق 16/250) بإسنادٍ صحيح، أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: “لقد شغلني الجهاد في سبيل الله عن كثيرٍ من قراءة القرآن”، فهذا القرآن الذي أمر الله فيه بالجهاد، أمر بالإكثار من تلاوته وتعلمه، فإن انشغلت طائفةٌ من المسلمين بتطبيقه واقعاً بالجهاد قتالاً ورباطاً وحفظه وأهله، فهذا من مقاصد الدين التي لا يُذمُّ قاصدها.

وإن الاهتمامَ بحفظ الثغور قد يحضرُ في كل أحوالِ المرء وعباداته حتى في صلاته، وقد بوَّبَ البخاري في صحيحه باباً فقال: (باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة) وقال عمر رضي الله عنه: “إني لأجهِّزُ جيشي وأنا في الصلاة” انتهى، وهذا له فيه سلفٌ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفِّفُ من صلاته رفقاً بمن خلفه من المسلمين، وكان يفكر بأمور الآخرة وهو يصلي، ومنه الحديث عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه، قال: “صَلَّيْتُ ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِن سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عليهم، فَرَأَى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِن سُرْعَتِهِ، فَقالَ: «ذَكَرْتُ شيئًا مِن تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي، فأمَرْتُ بقِسْمَتِهِ»” صحيح البخاري، وقد استدلَّ به العلماء على أَنَّ التَّفَكُّر فِي الصَّلَاة فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ لَا يُفْسِدهَا وَلَا ينْقص مِنْ كَمَالِهَا.

 

قال ابن القيم رحمه الله في (روضة المحبين ونزهة المشتاقين 207): “فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبه متوجِّهٌ في الصلاة إلى ربه، وإلى مراعاة أحوال من يصلي خلفه، وكان يسمع بكاء الصبي؛ فيخفف الصلاة خشية أن يَشُقَّ على أمه، أفلا ترى قلبه الواسع الكريم كيف اتسع للأمرين، ولا يظن أن هذا من خصائص النبوة، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجهز جيشه وهو في الصلاة فيتسع قلبه للصلاة والجهاد في آن واحد، وهذا بحسب سعة القلب وضيقه وقوته وضعفه” انتهى.

هذا وإن اجتماعَ العبادات اجتماعُ أجرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عشر ذي الحجة: «ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام يعني أيَّامَ العشرِ»، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: «ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ، إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ» رواه البخاري في صحيحه وأبو داود واللفظ له، هذا إن انفردت الأعمال فكان التفاضل بين أعمال عشر ذي الحجة بغير جهاد والجهاد في غيرها، فإن كان الجهاد فيها فهو العمل الصالح المحمود المرفوع المأجور، الذي لا يسمو إليه عمل.

ومع ذلك يحدث خلطٌ من الناس فيفضل بعضهم العبادات مع القعود على الجهاد في سبيل الله، وكأن الجهاد منفردٌ عنها، وكأن القائم على ثغرٍ من ثغور الأمة لا يصلي ولا يقرأ ولا يذكر… نترك الحديث عن هذا إلى المقال القادم إن شاء الله.

Exit mobile version