الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الجهادَ جهادان، جهادُ المرءِ نفسَهُ وجهادُه غيرَه، والرباطُ رباطان، رباطٌ على العبادات الخاصة ورباطٌ على الثغورِ العامة، ولكلٍّ أهميته، لكن المصطلحَ الشرعيَّ دلالتُهُ في الجهادِ والرباطِ عامةٌ، فما ترد كلمةُ جهادٍ إلا وابتدر الذهنَ معنى جهادِ العدو، رغم أن جهاد أو مجاهدةَ النفسِ عبارةٌ متداولةٌ، وما ترد كلمة رباطٍ إلا وابتدرَ الذهنَ معنى الرباطِ على الثغورِ العامة للأمة، التي يقصدها العدو للدخول منها، رغم أن كلمة رباطٍ وردت في نصٍ واضحٍ بالمعنى الخاص، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدُلُّكُمْ علَى ما يَمْحُو اللَّهُ به الخَطايا، ويَرْفَعُ به الدَّرَجاتِ؟”، قالُوا بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قالَ: “إسْباغُ الوُضُوءِ علَى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ”. صحيح مسلم.
أما كلمة ثغورٍ فإذا وردت فمعناها لا يحتمل التخصيص، فالثغور ثغور الأمة التي يرابط فيها المرابط، ويجاهد لحفظها المجاهد، ولا يرد الجهاد الخاص للنفس، ولا الرباط على الطاعات الخاصة في هذا الباب، فلا يقال فلانٌ قائم على ثغر الذكر أو ثغر الصلاة.
وللبيان نعمد إلى تقسيمٍ آخرَ للأعمالِ، فالأعمالُ من حيث نفعها قاصرةٌ على المرءِ كالصلاةِ، والصومِ، والذكرِ، والتَّعلُّمِ، وهذه لا يعتبر فاعلها قائماً على ثغرٍ، ومتعديةٌ إلى غيره كالتَّعليمِ، والجهادِ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إصلاحِ ذات البين، وهذه يعتبرُ فاعلها قائماً على ثغرٍ ما قامَ، إن كان قيامُه طارئاً أو دائماً.
وإن القيام على هذه الثغور فرضُ كفايةٍ في الغالب، يحفظها ما يكفي من المسلمين، فإن لم يحفظوها أثم جميعُ القادرين، وقد يكون القيام على ثغرٍ أو ثغورٍ فرضُ عينٍ في حالاتٍ، قال النووي -رحمه الله- في شرحه على صحيح مسلم: “ثم إن الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر فرضُ كفايةٍ إذا قام به بعض الناس سقط الحرجُ عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذرٍ ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضعٍ لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو”.
هذه مقدمةٌ موجزةٌ للوصولِ إلى الفكرة، ولو شئنا بسط المقدمة لتطلبت كلاماً مطوّلاً، أما الفكرة الأساس لهذا المقال فهي عبادات القائمين على الثغور الذين وفقهم الله واستعملهم فيها، ليخدموا الأمةَ وأنفسَهم، ولا يستطيعون ذلك إلا بالاستعانةِ بالله عز وجل، ثم الأخذ بالأسبابِ الماديةِ والمعنويةِ المعينة على ذلك.
يُخطئُ الكثيرُ من الناس عندما يفاضِلون بين العبادات القاصرة والعبادات المتعدية، وبين الرباط على الطاعة الخاصة والرباط على ثغور الخدمةِ العامة والدفاعِ عن الدين والأمة، فترى وتسمعُ من ينصحُ أصحاب الثغورِ إذا رأى جدهم ودأبهم فيها، أن يتركوها إلى العباداتِ القاصرة، من قراءةٍ وذكرٍ وقيام ليلٍ، وكأنه يعلم يقيناً أنهم لا يتعبدون، أو لا يرى القيام بهذه الأعمال المتعدية النفع إلى جزء من الأمة أو عامتها عبادة!، وهذه نظرةٌ قاصرةٌ بنوعيها.
نعم، هناك من يستهلك جُلَّ وقتهِ في الجهادِ والرباطِ والأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر، فلا يقرأ الكتاب ولا يقوم الليل ولا يصوم النفل كما يفعل غيره من القاعدين، لكن هذا لا يعني أنه فرَّطَ في العبادات كما فرط القاعدون في تلك العبادات، وإن التوفيقَ إلى وفي الجهاد وأمثاله وأشباهه من الأعمال يقوم على عباداتٍ خاصةٍ خفيةٍ يتقرب بها العبد إلى الله كي يستعمله ويوفقه، وهو مما أمر الله به عباده المؤمنين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال : 45]، فلا فلاح إلا بالقيام بهذه العبادات الخاصة والمتعدية مجتمعةً.
وإن القائمين على الثغور إن كانت داخليةً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو خارجيةً كالرباط، إنما يَكفُونَ الأمةَ هذا الفرضَ، ومنهم هذا القاعد الذي يرى العبادةَ في باب واحد أو أبوابٍ قليلة خاصة، كما أن حفظ الثغور حفظٌ للعبادات وأهلها من العدو الخارجي المحارب الذي يسعى ليستأصل المسلمين، والعدو الداخلي الذي يسعى بالنفاقِ والبدعة إلى تغيير الدين وإضلال أهله، فهذا القيام من العبادة والحفاظ على العبادة.
فإذا تكلمنا عن العبادات هذه كيف تجتمع، وكيف تتغير هيئات العبادات القاصرة ليقوم المسلمون بالعبادات المتعدية، فإن لذلك حديثاً نفصله في المقال التالي إن شاء الله.