الشيخ: أحمد راتب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فها قد أفل عام من أعوام الحياة الدنيا، بشهوره وأسابيعه، بأيامه ولياليه، بساعاته ولحظاته، ودّع فيه أناس الحياة الدنيا إلى لقاء ربهم، وأتى غيرهم مستقبلين حياة جديدة، مضى بلمح البصر، ولم يترك لنا منه إلا مجرد ذكريات نتذكرها.
وإن الناظرين لانصرام هذه السنة -وغيرها من السنين- ينقسمون من حيث تفاعلهم مع هذا الحدث إلى أصناف؛ فمنهم من تمضي هذه المناسبة لديه كأي يوم آخر من أيامه، بلا اعتبار ولا تفكر، ولا حزن ولا سرور، فلا يكترث لها، ولا تتغير أعماله بزيادة ولا نقصان.
ومنهم من يتخذ هذا اليوم عيدا، فيقضيه بالاحتفال وتوزيع الحلوى وضرب الدفوف وإنشاد الأهازيج والأشعار، زعما أنه يوم فرح للمسلمين احتفاء بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأفضلهم حالا ذلك الذي يتأمل انقضاء هذا اليوم تأمل المتحسر على ما فات منه من أوقات لم تستثمر في منفعة دنيوية أو أخروية، النادم على ما اقترفت يداه من ذنوب فيه وتقصير بحق الله عز وجل وبحق نفسه وأهله، المستبشر برضوان الله ورحمته وثوابه على ما قدم فيه من الخير، الراجي من الله تعالى غفران الذنوب المرتكبة، وقبول الطاعات المنجزة، العازم على استدراك التقصير في قابل الأيام؛ لأنه يعلم أن هذا الوقت الذي بين يديه نعمة عظيمة لا يشعر بقيمتها إلا من فقدها، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)، ولأنه يعلم أن انقضاء هذا اليوم يعني انقضاء ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوما من عمره، لن تعود ولن ترجع أبدا، ولأنه اتعظ بموت أشخاص كانوا العام الماضي أحياء بيننا يأكلون ويشربون، وهم الآن تحت التراب يُسألون، فجاء أجلهم على موعده دون تقديم أو تأخير، قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، ولأنه يوقن أن ملك الموت لا يُخبر أحدا بموعده حتى يتهيأ ويتجهز له، ولا حتى قبل ساعة ليصلي فيها ركعتين، أو ليقرأ فيها جزءا من القرآن، أو ليذكر ربه، أو ليتصدق ببضعة دنانير أو دراهم، ترفعه عند الله درجات، وتُكفَّر بها بعض السيئات، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
لقد أوصى الشرع المؤمنين بالتعجيل بالأعمال الصالحة والمسارعة إليها وعدم التأجيل والتسويف، ذلك بأن الموت يأتي فجأة، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ…) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
فتأمل أخي الحبيب واسأل نفسك، هل ازددت في هذا العام قربا من الله أو ابتعدت عنه؟ هل استكثرت من الطاعات؟ هل ازددت فيه علما تنتفع به وتنفع أمتك؟ أم كان حالك فيه أسوأ مما كان قبله؟
وبعد أن تحاسب نفسك، اعقد العزيمة، وشد الهمة، وشمر عن ساعديك، لتنطلق انطلاقة جديدة، وضع برنامجا لأعمالك، كي لا يذهب وقتك سدى في التسويف والتأجيل، وإذا قبض الله روحك قبل تنفيذ برنامجك يكتب الله لك أجر النية، فإن من هم بحسنة فلم يعملها يكتبها الله له حسنة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأختم بوصية ثمينة من النبي صلى الله عليه وسلم، ملؤها الحرص على اغتنام الفرص وعدم تضييعها، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمسا قبل خمس؛ شبابَك قبل هرمكَ، وصحتَك قبل سَقمِكَ، وغناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَكَ قبل موتِكَ).