باحث
الحمد لله منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب، كتب على عباده الجهاد فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة:216]، والصلاة والسلام على سيد الشهداء وإمام الأتقياء القائل: «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ» صححه الألباني، وبعد:
إنّ مما شُرّف به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ختم الله تعالى به الأنبياء والرسل، وجعل رسالته وشريعته خاتمة الشرائع، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، وخصّه عن باقي الأنبياء فأرسله للناس كافةً وأرسلهم إلى أقوامهم خاصةً، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال أيضاً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]، فقام صلى الله عليه وسلم بحقّ الرسالة التي حملها والأمانة التي وُكّل بها، فبلغ الدين وأدى الأمانة وأقام أمر الله في البلاد وقلوب العباد، وجاهد في الله حقّ الجهاد، وأخبرنا أنه لولا أن يشقّ على المسلمين ما قعد خلاف سريةٍ تغزو في سبيل الله، وأخبرنا أنه أُمِر أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله.
فجاهد النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا وأحلافها سنواتٍ وأعوامًا إلى أن تمّ له الفتح، وقاتل اليهود أهل الغدر والخيانة إلى أن خضعوا واستسلموا ورضخوا وهو صاغرون، وأرسل الجيوش لمقارعة الروم في بلاد الشام في مؤتة…إلخ، وأرسل الرسل تُبلغ كسرى وهرقل أن أسلموا تسلموا وإلا فالقتال، فأعلن صلى الله عليه وسلم عالمية الجهاد، مع سياسته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأعداء بما يتوافق مع مبادئ الإسلام وتعاليم الشرع الحنيف، وفي ذلك قال ابن كثير رحمه الله: “بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته، عليه السلام”.
فما المقصود بعالمية الجهاد؟
الاعتقاد بأن الجهاد لا يتوقف عند تحرير بلدٍ أو فتحِ حصنٍ حتى يحكم دينُ الله في الأرض، وأن الجهاد مشروعٌ في حقِّ كلّ من كفر بالله تعالى وحارب الإسلام والمسلمين، مع مراعاة فقه التعامل مع الأعداء.
وهذه العالمية ذكرها الله عز وجلّ في مواضع عدةٍ في كتابه، وترجمها النبي صلى الله عليه وسلم واقعاً عملياً في سنته، وأوضح آيةٍ في عالمية الجهاد قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]. قال القرطبي رحمه الله: “أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار”، وقال صاحب الظلال سيد قطب عند الوقوف على تفسير هذه الآية: “وإذا كان النص -عند نزوله- يواجه قوة المشركين في شبه الجزيرة، وهي التي كانت تفتن الناس، وتمنع أن يكون الدين لله، فإن النص عام الدلالة، مستمر التوجيه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ففي كل يوم تقوم قوة ظالمة تصد الناس عن الدين، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة إلى الله، والاستجابة لها عند الاقتناع، والاحتفاظ بها في أمان. والجماعة المسلمة مكلفة في كل حين أن تحطم هذه القوة الظالمة وتطلق الناس أحراراً من قهرها، يستمعون ويختارون ويهتدون إلى الله”.
ومن الآيات الدالة على عالمية الجهاد قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، قال الطبري رحمه الله: “وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين”، وغيرها الكثير من الآيات التي تؤكد على عالمية الجهاد وشموليته.
إنّ العدو يعلم علم اليقين خطورة عالمية الجهاد عليه إن ترسخت معانيها وتجذرت معالمها في قلوب المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه جاهد الذين يلونه من الكفار إلا أنه لم يغفل عن أمر عالمية الجهاد حتى في أحلك الظروف وأشدّ المحن يوم الأحزاب يوم أن بشّر المسلمين بفتح بلاد فارس وغيرها.
إن الواقع اليوم مع حالة جهاد الدفع التي نعيشها نجد أن معنى عالمية الجهاد قد غاب عن أذهان الكثيرين من المنتسبين للحركات الجهادية، فأصبح أسمى أمانيهم أن يحرروا أرضهم التي سلبها منهم عدوهم، ويستعيدوا أموالهم وديارهم، نعم إّن القتال في سبيل الدفع واستعادة الأرض والديار أمرٌ حسنٌ ومطلبُ حقٍ ومشروعٍ في ديننا ومن قتل دونه فهو شهيد، لكن هذا لا يعني أن نعتقد أنّ الجهاد يتوقف هنا والمعركة قد حسم أمرها والعدو خاب وخسر، بل لا بد أن نسعى ونبذل الجهد والتعب ونواصل المسير حتى نحقق مراد الله في أرضه، أن يعبد وحده لا غيره.
يبقى أن ننبه أن مسؤولية العلماء والدعاة إلى الله والمفكرين والمصلحين توعية المسلمين بضرورة العمل للوصول إلى أعلى مراتب الجهاد، وأن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، ووظيفتنا كما أخبر ربعي بن عامر ر ضي لله عنه: “إنّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
أسأل الله أن يكلل جهاد أهلنا في غزة والشام وفي كل مكان بالنصر والتمكين، إنه على كلّ شيء قديرٌ وبالإجابة جديرٌ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.