طوفان الأقصى وخلط الأوراق – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٥٤ – ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ⁩

الأستاذ: حسين أبو عمر

صبيحة يوم السابع من أكتوبر اجتاز مئات من مجاهدي القسام السياج الفاصل بين غزة والكيان الصهيوني، رافق الاجتياز البري إنزالات جوية وبحرية، دخل مجاهدو القسام على إثرها عدة مستوطنات في غلاف غزة، وسيطروا على عدة نقاط عسكرية، فقتلوا ودمروا وأسروا من فيها.. أسفرت العملية حتى الآن عن مقتل أكثر من ألف وأربعمائة صهيوني، وأسر أكثر من مائتي أسير؛ بينهم ضُبّاط برتب عالية.. في عملية بطوليّة فاجأت الجميع، مسحت بسمعة أجهزة الاستخبارات الصهيونية الأرض، وحطَّمت أسطورة “الجيش الذي لا يقهر”.

لا تزال الأسباب الكامنة وراء قيام القسام بعملية بهذا الحجم، واختيار التوقيت غير معلومة بشكل قاطع:

تحدث البعض عن توريط إيراني لحماس، ومن ثم تخليها عنها.. وهذا الكلام بعيد عن الصواب، فلا مصلحة لإيران بتوريط الفصائل الفلسطينية بحرب صفرية، تجبرها على الدخول في الحرب، أو تبقى على الحياد فتفقد الورقة التي كانت تتاجر بها؛ ولا القسام سذج لهذه الدرجة.. والذي يبدو أنه لا إيران ولا ميليشياتها ولا حتى باقي الفصائل الفلسطينية كانت على علم مسبق بالعملية.

وتحدث آخرون عن شرخ داخلي تعاني منه حركة حماس، وأنها وصلت لمرحلة التفكك، ولذلك قررت اتباع هذه السياسة “تجميع الأتباع على عدو خارجي”.. وهذا الاحتمال وإن كان أكثر وجاهة من سابقه، إلا أن حجم العملية والنجاح الكبير الذي حققته، لا يرجح ذلك..

بينما ربط أكثر المتابعين أسباب العملية بحالة الإغلاق التي يعيشها قطاع غزة بشكل خاص والقضية الفلسطينية بشكل عام، وشدة الحصار والضغط الاقتصادي الذي يعاني منه قطاع غزة، وما يقوم به الكيان من ممارسات ضد المسجد الأقصى وفلسطيني الضفة والداخل…؛ وهذا الاحتمال وإن كان أوجه مما ذكر سابقا إلا أن حجم المعركة التي خاضتها حماس لا يوحي بأن هذه الأسباب وحدها هي التي دفعتها للقيام بهذه العملية..

الذي يبدو لي أن التطورات الأخيرة في المنطقة كان لها الدور الأكبر في اختيار حجم العملية وتوقيتها:

أولا: اتفاق التبادل الأخير بين أمريكا وإيران، والذي تم بموجبه الإفراج عن خمسة أسرى أمريكيين لدى إيران مقابل الإفراج عن ستة مليار دولار إيرانية كانت مجمدة، كما خرج كلام عن تفاهمات أخرى في طريقها للنضوج..

 

ثانيا: احتمالية التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البرية بين الكيان الصهيوني وحزب الله في لبنان؛ حيث زار الوسيط الأمريكي آموس هوكشتين بيروت في نهاية آب الماضي من أجل ذلك، كما زار الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وآموس هوكشتين نفسه كان قد لعب دور الوساطة في الوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين في أكتوبر من العام الماضي..

ثالثا: إكمال مسيرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، فبعد توقيع بعض دول الخليج على اتفاقية أبراهام، خرجت تسريبات كثيرة في الأشهر الماضية عن تطبيع سعودي مع الكيان الصهيوني، وكذلك جعل الكيان الصهيوني مركزا مهما في الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي، بحيث تصبح كل هذه الدول مرتبطة ببعضها بطرق وربما اتفاقيات اقتصادية بعيدة المدى..

سيكون لهذه الاتفاقيات -إن تمت- تأثير كبير على القضية الفلسطينية وعلى الفصائل الفلسطينية، ربما يصل إلى حد إنهاء الفصائل وتصفية القضية؛ ولذلك قررت حماس خلط الأوراق على الجميع، قبل الوصول لهذه الاتفاقيات، فدخلت الحرب بهذه الطريقة وبهذا التوقيت؛ هذا أرجح الاحتمالات عندي، وما يقوي ذلك أيضا أن حماس حاولت منذ بداية المعركة وإلى الآن جر إيران والميليشيات التابعة لها للدخول في المعركة، وانتقد قادة كبار فيها ضعف مشاركة حلف إيران في المعركة.

*آثار العملية:

 

صدمة العملية أفقدت الغرب توازنه، وجعلت ردة فعله الأولية كردة فعله على عملية 11 سبتمبر 2001، فصدرت من الكثير من قادته تصريحات غير مسؤولة، أما الانحياز الإعلامي للكيان الصهيوني فقد بلغ مبلغا أنكره حتى بعض الغربيين، بل وصل الحال في الغرب من التضييق على المسلمين إلى درجة غير معقولة أبدا، وكأن المسلمين أمام محاكم تفتيش جديدة!..

كما وضعت العملية غالبية اللاعبين السياسيين في الإقليم في مأزق:

١- لدى الكيان الصهيوني تخوف حقيقي من التورط في حرب برية؛ الانتصار فيها غير مضمون، وإن تحقق الانتصار في الحرب فغالبا سيستغرق ذلك وقتا طويلا، وستكون الخسائر البشرية من جنود الكيان كبيرة، وفي نفس الوقت لا يستطيع التسليم بهذا الواقع الجديد الذي فرضته العملية: من فقدانه القدرة على تحقيق الردع، ومن ظهوره بهذا الضعف أمام مواطنيه، الذين سيهاجر قسم منهم إذا فقدوا الثقة بقدرات مؤسساتهم، وفقدوا الشعور بالأمان..

٢- الولايات المتحدة الأمريكية غير مستعدة أيضا للتسليم بالواقع الجديد، وحريصة جدا على استعادة الردع، وعلى إظهار التضامن مع الكيان الصهيوني إلى أبعد الحدود.

ولكنها، في ذات الوقت، لديها تخوف حقيقي من أن تكون نتيجة اجتياح بري لغزة، أو إسراف الكيان الصهيوني في القتل والتدمير، مؤثرة جدا على الكيان الصهيوني وعلى مصالح ومشاريع أمريكا في المنطقة، وأن تكون النهاية إضعاف مكانة أمريكا في العالم، والخوف هنا من عدة أوجه:

أولا: تنامي مشاعر الغضب ضد أمريكا في العالم الإسلامي، واحتمال حصول ردود أفعال ضد مصالح أمريكا ومواطنيها..

ثانيا: تأثير ذلك على مشروع أمريكا في تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني ودول المنطقة: اتفاقية أبراهام، التطبيع السعودي-الصهيوني، الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي..

ثالثا: توسع الحرب، ما يضطر أمريكا للمشاركة المباشرة فيها..

رابعا: استغلال الصين وروسيا لهذا الواقع، والسعي لتحقيق مكاسب جيوسياسية في محيطيهما، أو حتى على مستوى جغرافيا العالم.

٣- إيران، هي الأخرى، لا ترى لها مصلحة بالدخول في الحرب بشكل مباشر أو حتى عن طريق مليشياتها، وفي نفس الوقت واقعة في حرج أمام أنصارها وأمام الفصائل الفلسطينية، التي باتت تنتقد مشاركتها الخجولة بشكل علني.. فآثرت السماح للميليشيات التابعة لها بالقيام بمناوشات محدودة، وعدم تخطي قواعد الاشتباك؛ حتى لا تدخل الحرب بشكل واضح من جهة، وحتى لا تظهر بمظهر المتخلي عن المقاومة الفلسطينية أمام أنصارها من جهة ثانية، وكذلك تحاول استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب في سوريا والعراق..

٤- وضعت العملية الحكومات العربية التي في طريقها للتطبيع مع الكيان الصهيوني في حرج أمام مواطنيها، وأمام الشعوب العربية والإسلامية بشكل عام؛ فعرقلت قطار التطبيع، ولو بشكل مؤقت، ومن الممكن أن تتوقف عملية التطبيع لفترة طويلة إذا تطورت الأمور أكثر مما هي عليه الآن..

وللتغلب على هذه المعضلة التي وضعتهم طوفان الأقصى فيها يطرح بعض الكُتَّاب الغربيين تطبيق إحدى استراتيجيتين:

١- إما إشراك الأمم المتحدة ودول عربية في عملية السيطرة على غزة، ونزع سلاح المقاومة، والتمكين لإدارة مدنية تحكم غزة، وهو سيناريو صعب تطبيقه.

 

٢- أو حملة قصف منخفضة الشدة، طويلة الأمد، مع حصار شديد، مع الضغط لفتح معبر رفح، بحيث تُصبح حياة الناس في القطاع صعبة جدا، فيُجبر الناس على الهجرة.

وأمام هذا الواقع، وهذا القصف الجنوني على سكان القطاع، والتدمير لكل أسباب الحياة، تقع على علماء الأمة ودعاتها ونخبها مسؤولية كبيرة بنصرة أهل غزة بكل ما يملكون، ومن أهم الأسباب التي تخفف عن أهل غزة اليوم حشد المسلمين وتحريضهم على قتال الصهاينة، والضرب على نقاط الضعف التي يخاف منها الأمريكيون، إذ هم رأس الحربة في الحرب على أهل غزة، وهم من يمكن أن يجبر الصهاينة على توقيف القصف.

Exit mobile version