الأستاذ: غياث الحلبي
احتشد الطلاب في المعهد وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ويتعرف بعضهم إلى بعض؛ فقد كان معظم طلبة المعهد من المهجرين الذين أجبروا على ترك ديارهم والفرار بدينهم وأرواحهم من بطش النظام النصيري ووحشيته؛ فهذا من دراعا وذاك من حماة وثالثهم من بانياس والرابع من حلب، وأما الجالسان قرب الباب، فأحدهما من الرقة والثاني من دير الزور، وأمامهما شاب من دمشق.
كان معهد الإمام سفيان الثوري قد افتتح في مدينة إدلب لتدريس المواد الشرعية وتخريج طلبة علم يعملون على سد الثغور العلمية من إمامة وخطابة ودروس مسجدية وكلمات تحريضية على الجبهات وفي المقرات والثكنات، وأعمار الطلاب تتراوح ما بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين.
مضت بضع دقائق قبل أن يدخل المعلم إلى القاعة ويبدأ بمقدمة تعريفية عن المعهد، ثم يتكلم قليلا عن طلب العلم وفضله ووجوب نشره وأهمية الجهاد باللسان ودفع شبه الباطل وكشف أكاذيب الأفاكين وأهل الضلال الذين لا يكفون عن السعي لتشويه صورة الإسلام وإلصاق التهم الباطلة فيه، ثم أخذ يحضهم على الجد والاجتهاد في تحصيل العلم والصبر على شدائده.
ثم تنهد بحزن وقال: اعلموا يا أبنائي أن الباطل يسعى لغرز مخالبه في عقائد المسلمين ويحرص على تقطيع أوصال أخلاقهم بأنيابه، ولا شيء يخيفه أكثر من العلماء الربانيين الذين لا تنطلي عليهم خدعه، ولا يغترون بمسعول كلامه، ولا تروج عليهم أكاذيبه؛ ولذلك فإن من أهدافه العظمى أن يبقى الناس غارقين في مستنقع الجهل يتخبطون حيارى في ظلمات الضلال.
إن الباطل يغدق أموالا عظيمة ليمنع نور العلم من التسلل إلى قلوب الناس وعقولهم؛ لأن وصول النور يعني تمزيق الظلام وهلاك الباطل.
وأنتم يا أبنائي في خير عظيم؛ فقد يسر الله لكم من يدرسكم العلم وأنتم آمنون مطمئنون لا تخافون وشاية مخبر أو تجسس عميل لأفرع الأمن، ودعوني أسرد عليكم قصتي في طلب العلم فإن في ذلك ما يحفز هممكم ويستثير عزائمكم إن شاء الله.
لقد نشأت في أسرة متدينة تحب الله ورسوله وتحرص على الالتزام بشعائر الإسلام وحضور مجالس الوعظ التي تعقد في المساجد، ولكن الخطير في الأمر أن هذه المجالس كان يتصدرها المشايخ المتصوفة الذين يجري الغلو في الصالحين في عروقهم، فكانوا يقصون علينا من القصص ما لا يقبله دين ولا يدخل في عقل، ومع ذلك تتأثر الناس بذلك ويسرون به، والحق أني كنت واحدا من الناس أتصرف مثلهم تماما.
ومضى على ذلك وقت ليس باليسير ثم انتشرت القنوات الفضائية الدينية، ونفع الله بها كثيرا من الناس، وأنا واحد منهم، فكنت أستمع إلى العلماء وهم يفسرون كلام الله ويشرحون سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقررون التوحيد بيسر وسلاسة لا تصطدم مع فطرة ولا يرفضها عقل، فأحببت العلم وأقبلت بشغف على متابعة برامج المشايخ والاستفادة منها وتدوين فوائدها في دفتر أعددته لذلك.
وازداد حبي للعلم وأردت أن أجد شيخا أجلس بين يديه وأتلقى منه، وكان هذا في غاية الصعوبة؛ لأن السجن سيفتح ذراعيه لاحتضان من يفعل ذلك.
ثم يسر الله لي أحد طلبة العلم فدلني على مجلس علم يعقده أحد المشايخ في بيوت تلاميذه خوفا من أعين الرقباء، فالتزمت في تلك الحلقة، وكان الشيخ يشرح لنا من تفسير ابن كثير وفقه السنة وكتاب التوحيد، وشعرت بالفرح يغمر قلبي ويملأ جوانحي، غير أن ذلك لم يدم طويلا، فقد تمكن أحد مخبري النظام من رصد أوقات تجمعنا فوشى بنا إلى الأمن العسكري فداهمنا المجرمون وألقوا القبض علينا جميعا وبالجرم المشهود كما قالوا، ثم ساقونا مقيدين معصوبي الأعين إلى ما يسمى بفرع فلسطين.
ولن أكلمكم عن حفل التعذيب الذي استقبلنا به هناك ولا عن المعاملة التي يبكي من هولها الحجر ولا عن الكفر الذي لو سمعه أبو جهل لخر ساجدا يقول: ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. إنما حديثي عن طلب العلم هناك.
لما دخلت الفرع كنت أحفظ سبعة أجزاء من القرآن ووجدت السجن فرصة لأتابع حفظي هناك، فما إن استقر بي المقام في المهجع بعد نقلي إليه من المنفردة، حتى سألت السجناء ومعظمهم معتقلون لقضايا إسلامية ما بين جهاديين وحركيين وعلميين: هل عندكم مصحف هنا؟ فقالوا: نعم، ففرحت، وقلت: أين هو؟ فقالوا: أي جزء تريد؟ فتعجبت وقلت: أريده كاملا، فقالوا: للأسف يوجد عندنا اثنان وعشرن جزءا فقط، فقلت: ولماذا؟ هل اقتطع أحد من النسخة ثمانية أجزاء، فضحك محدثي وقال: يا هذا، أتظن نفسك في دولة تعترف بحقوقك، ابتسم يا أخي فأنت في سوريا، ألا تعلم أن المصحف ممنوع هاهنا، ثم أخذ بيدي وأخذني إلى الجدار الأول، وأشار بيده إليه، وقال: هاهنا الأجزاء الثلاثة الأول من القرآن، ثم انتقل إلى جدار مجاور إليه، وقال: وهنا الأنفال والتوبة ومحمد، وسار شيئا قليلا حتى وصل إلى الجدار الثالث، وقال: وهاهنا الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج، ثم عاد بي إلى حيث كان يجلس وأخرج أوراقا كانوا يجمعونها من علب التبغ، وقال: وهذا باقي المصحف، سوى الأجزاء الثمانية وهي من الواحد والعشرين إلى التاسع والعشرين، ثم قال لي: كم تحفظ من كتاب الله، فقلت: الأجزاء الخمسة الأول، والجزأين الأخيرين، فقال: حسبي الله ونعم الوكيل، إذن لن تفيدنا في إكمال كتابة المصحف.
فأقبلت بجد على حفظ كتاب الله، حتى أني كنت أحفظ بإتقان شديد جزءا كل أسبوع وأنا مشفق من عدم وجود باقي المصحف، والمهجع كأنه خلية نحل في تدارس القرآن، فالجميع إما معلم أو متعلم، سوى ثلاثة أشخاص لم نعرف كنه تهمهم على الحقيقة، ولكن من الواضح أن النظام وضعهم بيننا ليكونوا عينا له علينا، والحق أنا ما كنا نعبأ بذلك كثيرا؛ لأننا كنا نحترس منهم أشد الاحتراس، فلا نتكلم شيئا أمامهم.
مضت عدة أسابيع قبل أن يتم نقل معاوية من المنفردة إلى المهجع الذي أنا فيه، وما إن استقر به المقام حتى هرعت إليه ولم أسأله عن تهمته، فقد بدا واضحا على وجهه أنه قد اعتقل منذ فترة طويلة لتهمة إسلامية، فبشرته بيضاء لبعد عهده بالشمس، والنور يتلألأ في وجهه، إضافة إلى علامات التعذيب الوحشية، وهذه الطريقة في التعذيب تكاد تكون حكرا على أصحاب التهم الإسلامية.
دنوت منه وسألته: كم تحفظ من كتاب الله؟ فقال: بحمد الله، قد انتهيت من حفظه من ثلاثة أشهر، ففرحت فرحا شديدا، ثم انتبهت لنفسي، هل هذا الرجل يعرف ما يقول، أم أن ما عاناه من التعذيب جعله مهلوسا، فتشجعت وسألته كيف حفظته ولا مصحف لديك، وأنت في منفردة، فضحك ولاحظ ما اعتراني من دهشة، فأحب أن يزيد ذلك، فقال: عن طريق صنبور المياه! فأيقنت أن الرجل فاقد لعقله؛ إذ كيف يحفظ الإنسان القرآن عن طريق صنبور المياه، ولدهاء الرجل وذكائه، قال لي: امتحني، فأعجبتني الفكرة، فسألته عدة أسئلة في كتاب الله، فإذا به يجري في القراءة كالسهم لم يخطئ خطأ واحدا، فزادت حيرتي، وقلت له: سألتك بالله، وضح لي كيف حفظت القرآن؟ فقال: كنا في سلسلة المنفردات نعرف بعضنا، ومعنا شاب يحفظ القرآن بالقراءات السبع، فكانت المياه إذا انقطعت طرقنا على بعضنا طرقات معينة ففتحنا صنابير المياه، وبدأ الأخ الحافظ يقرأ ونحن نستمع، ولا يزال يعيد الصفحة مرات كثيرة حتى نحفظها ثم نقرأها عليه، وكنت لما دخلت المنفردة أحفظ عشرة أجزاء ثم حفظت بهذه الطريقة عشرين جزءا.
فسررت بذلك، وأقبل الكتَّاب في المهجع عليه بعد أن علموا أنه قد أتم حفظ القرآن فأخرجوا أقلام القصدير، طبعا هي ليست أقلاما ولكن غطاء علب اللبن المجفف تُلف حتى تصير كهيئة الأقلام، ثم تبل بالماء ويكتب بها على الجدران، فيكون خطها كقلم الرصاص.
وبدأ الكتبة يكتبون على الجدران وهو يملي عليهم، حتى كتبوا الأجزاء الثمانية في أسبوعين، وبذلك صار عندنا نسخة كاملة من القرآن، واحتفل المهجع بذلك احتفالا عظيما، وامتلأ قلبي فرحا وسرورا، والحق أني كنت أتمنى ألا يطلق سراحي إلا بعد أن أتم حفظ القرآن، وقد حقق الله لي ذلك، ففي اليوم الذي أنهيت فيه حفظ القرآن بعد الفجر أطلق سراحي بعد العصر ولله الحمد.
ثم أقبل على طلاب المعهد وقال: فأنتم ترون كيف يسر الله لكم تحصيل العلم ووفقكم لتلقي العلم بيسر وسهولة، فاحرصوا على الجد والاجتهاد فأنتم في نعمة عظيمة.
انتهت.