الستر نعمة عظيمة تخفي أخطاء وعيوب الناس عن الناس، وكما يحوي البدن عامة والبطن خاصة ما يأنف الانسان ويشمئز منه، يحوي القلب من الخواطر والأفكار، ويحوي سر الانسان من الأفعال ما قد يكون أفظع وأشنع، وما عليك إلا أن تتصور حياة مليئة بما يجري في العروق وتحويه البطون يسيل بين الناس مكشوفاً، لتقدّر نظرة الناس إلى بعضهم حينها وتدني حياتهم إلى البهيمية، وهذا يحدث إذا انكشف ستر الأفكار والأفعال، فلن يكون بعدها معروفٌ يُعرف ولا منكر ينكر، ويستمرِئ الناس الباطل والفساد والرفث وكل مستقذر، حيث يبررون ويعتذرون بحال بعضهم البعض، يقولون: “كل الناس هكذا”.
هذا الستر ينكشف بفعل الناس أكثر فأكثر مع تقدم الزمان، وإن الله لا يكشف ستره عنهم حتى يكشفوا هم، فإذا كشفوا ابتلاهم في الدنيا وعذبهم في الآخرة، روي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله أنه قال: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين”. وما يُحرم المجاهر المعافاة إلا لأنه بارز بالمعصية، فنزع الحياء، واستمرأها، ونقل الذنب من الخاص الذي بينه وبين ربه إلى العام الذي يضر الأمة، وإن إثم وعقاب الذي يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا عظيم، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور : 19].
ما سبق كان في العيوب والأخطاء الخاصة المستورة، التي تصلح بالتوبة بين العبد وربه، ورد الحقوق إن كان للخلق حقوق على صاحب العيب والخطأ، فالستر أولى وإن كان في الحد ما لم يبلغ السلطان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ“. رواه أبو داوود وصححه الألباني.
اما العيوب والأخطاء العامة التي تظهر أو تظهر آثارها فلا يصح ولا يجوز السكوت عنها وسترها، وليس هذا من أمر الله ولا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أحد فضح خطأ من أخطاء عماله، أو أحداً عاب منكراً شاع في جماعة من المسلمين، بل كان يتلقى إنكار هذه المنكرات بالقبول الضمني أو الصريح، وهنا لا يتصور أن يكون الخطأ العام الذي يقع ممن ولي أمر الأمة أو بعضها سراً، فالسر، يكون بين المرء وربه وإن اطلع عليه بعض الناس فهم مأمورون بالستر، وهذا للذنب الخاص، ولا يتصور أن يكون للعام الذي يضر بالأمة، والخطأ الذي ترتكبه طائفة أو جماعة فإنه أظهر وأوضح ويستحيل أن يشمله الأمر بالستر، فهو معلوم مفضوح بطبيعة الحال.
إن ستر العيوب العامة المفضوحة يشبه ستر الأوساخ التي في البيت وقد تراكمت بفعل أهله، وما فطنوا لسترها إلا عندما طرقهم الضيوف، فهم يجعلونها تحت السجادة والأرائك ولو كانت رائحتها تشي بها، ويعاقبون ضعيفهم الذي يفضحها أو يعيب عليهم ويأمرهم بتنظيفها وإصلاح البيت كما يجب، ويتغاضون عن القوي الذي يزيدها ويكافؤون من يسترها، وهكذا يستمر العطب ويتفاقم الحال ويشمئز الضيوف والجيران، ولربما سكتوا فظن أهل البيت أنهم يحسنون صنعاً، ولربما نطقوا فعاقب أهل البيت الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر منهم.
إنها مفارقة لكنها ليست عجيبة، فهي تتكرر في الأزمنة والأمكنة وبين الأمم، وإن خيرية هذه الأمة في النطق لا بالسكوت عن العيوب والأخطاء والمنكرات التي تظهر إن كانت من الأفراد في ساح الأمة أو من الجماعات، هذه الأخطاء والمنكرات العامة تستدعي مجابهتها علناً كما هي معلنة أو آثارها معلنة، وتتطلب أمر ونهي الجهات التي ترتكبها أو تقصر في إصلاحها.
هل علمتم أن بضائع عدوٍّ دخلت إلى أرض عدوه ووزعت وبيعت لوحدها، دون تاجر كبير وتجار تجزئة وموزعين؟ ودون سلطة منتفعة تغض الطرف مقابل جزء من المال الحرام؟!، هل علمتهم أن مصنعاً للمواد المخدرة ينشأ لوحده وينتج الحبوب ويوزعها في منطقة عسكرية دون أن يكون هناك من يصنع ويتاجر ويروج وينقل؟!، ودون ان يكون هناك ذو سلطة منتفع يحمي ويغطي على هذه الصناعة والتجارة مقابل جزء من المال الحرام؟!… هذه أمثلة فقط.
إن أحدهم ليكثر من القول فيما لا ينفع، ولعله يساهم في تعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسكوته أو بقوله أو بفعله ويحارب أهلها، ويحسب أنه يجاهد في سبيل الله، لكن عليه أن يراجع نفسه ليعلم في ماذا يجاهد وفي ركاب من وفي سبيل من يجاهد.
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران : 110]
اللهم أصلح شأننا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا.
الأستاذ أبو يحيى الشامي