رباط الخيل || من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد للشيخ أبو شعيب طلحة المسير

رباط الخيل[1]

قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ..

هذه الآية المباركة تضع أساسا قرآنيا عظيما من أسس الجهاد في سبيل الله تعالى وهو أساس الإعداد للقاء العدو، وفيها توجيهات وآداب وفوائد كثيرة، نستعرض منها هنا بعض ما تتعلق به كلمة ﴿رِبَاطِ الْخَيْلِ، كالتالي:

1- معنى رباط الخيل:

قال ابن منظور في لسان العرب: “رباط الخيل: مرابطتها. والرباط من الخيل: الخمسة فما فوقها..، الرباط..: ارتباط الخيل وإعدادها..، قال القتيبي: أصل المرابطة أن يربط الفريقان خيولهما في ثغر كل منهما معد لصاحبه”..

وبنحو هذا فسر المفسرون معنى رباط الخيل، قال البغوي في تفسيره: “وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، يعني: ربطها واقتناؤها للغزو“.

وقال النسفي في تفسيره: “وَمِن رِبَاطِ الخيل، هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله”..

وقال الخازن في تفسيره: “وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، يعني اقتناءها وربطها للغزو في سبيل الله، والربط شد الفرس وغيره بالمكان للحفظ”.

فالآية تأمر الأمة بإعداد كل ما تستطيعه من خيل مجهزة مدربة مفرغة مستعدة في مرابطها وقريبة من فوارسها جهادا في سبيل الله تعالى.

2- سبب تخصيص رباط الخيل:

أمر الله تعالى الأمة بإعداد ما تستطيعه من قوة، فأمروا بذلك بكل أنواع القوة التي تفيد في الجهاد في سبيل الله تعالى من قوة بدنية وقوة سلاح وقوة مركب وقوة عقل وتخطيط..، وغير ذلك، ولكن جاء التخصيص بعد التعميم وورد ذكر رباط الخيل رغم دخوله فيما سبق تأكيدا عليه وتنبيها لأهميته وتشريفا لخصوصيته، قال القرطبي في تفسيره: “إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما. فقال: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾“.

وقال ابن حيان في تفسيره: “وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تنصيص على فضل رباط الخيل؛ إذ كانت الخيل هي أصل الحروب، والخير معقود بنواصيها، وهي مراكب الفرسان الشجعان”.

وقال أبو السعود في تفسيره: “وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة”.

* وقد ذكر بعض العلماء أن الحرب تعتمد على الرمي البعيد وعلى الانغماس القريب في أرض المعركة، والخيل هي أداة الالتحام والانغماس في صفوف العدو؛ فالرمي وحده لا يحرر الأرض ما لم تكن هناك قوة ميدانية تقاتل فيها لتحريرها، والخيل هي أهم أداة لنقل المجاهد إلى تلك الأرض، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه، يبتغي القتل والموت مظانه».

3- فضل رباط الخيل:

قال أبو عبيدة في كتاب الخيل: “لم تكن العرب في الجاهلية تصون شيئا من أموالها ولا تكرمه صيانتها الخيل وإكرامها لها؛ لما كان لهم فيها من العز والجمال والمتعة والقوة على عدوهم، حتى إن كان الرجل من العرب ليبيت طاويا ويُشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده، فيسقيه المحض ويشربون الماء القراح، ويعير بعضهم بعضا بإذالة الخيل وهزالها وسوء صيانتها..، فلم تزل العرب على ذلك.. حتى جاء الله بالإسلام فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم باتخاذها وارتباطها لجهاد عدوه..، فاتخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحض المسلمين على ارتباطهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أرغب الناس فيها وأصونهم لها وأشدهم إكراما لها وحبا وعجبا بها، حتى إن كان ليتسار بصهيل الخيل يسمعه، ويُسبق بينها ويعطي على ذلك السبق، ويمسح وجه فرسه بثوبه، حتى جاءت عنه بذلك الآثار ورواه الثقاة من أهل العلم والصدق، وأسهم للفرس سهمين وللرجل سهما واحدا من المغانم”.

ومن الأدلة على ذلك ما يلي:

– أقسم الله جل وعلا بالخيل التي تغير على الأعداء وذلك لشرفها وفضلها ولما فيها من الآيات الباهرة والنعم الظاهرة، قال تعالى: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة».

– وقال صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة».

– وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وروي نحوه مرفوعا: “والذي نفسي بيده، ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر، فيقول: اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك، وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده“، قال الدمياطي في مشارع الأشواق: “ولا يتعجب من دعاء الخيل، فإنها تتميز على غيرها من الحيوان المركوب بمزيد إدراك وفهم، وسرعة قبول للتهذيب ورياضة الأخلاق، وغير ذلك مما يشهد به العيان”.

– أنه لا زكاة على من تملك الفرس لا للتجارة خلافا لبهيمة الأنعام كالإبل والبقر والغنم، قال صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة».

أن الغنيمة التي تعطى لمن يجاهد على فرس أكبر من الغنيمة التي تعطى للراجل، ففي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل، للفرس سهمين، وللرجل سهما».

* ولعناية النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل فقد اعتنى المؤرخون بذكر أسماء وأخبار خيله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك ما جمعه صاحب غاية المراد في الخيل الجياد، حيث قال: “فأما خيلُ النبي صلى الله عليه وسلم فهي: السَّكب، والمُرْتَجِز، واللِّزاز، واللَّحيف، وسَبْحَة، والظَّرِب، وذو اللُّمَّة، والسِّرحان، والمُرْتجِل، والأدْهَم، ومُلاوِح، والوَرْد، والعُقَّال، واليَعْسوب، واليَعْبُوب، ومِرْواح، والبَحر، والسِّجل”.

4- فضل الخيل بعض فضل الفرسان:

إن هذا الأمر الصريح بإعداد الخيل وتجهيزها في مرابطها وتدريبها والعناية بها ورعاية شؤونها وترتيب الفضل العظيم على ذلك هو تنويه وتنبيه من باب أولى على فضل العناية بالمجاهد القوي الذي يجيد استخدام تلك الخيل، فماذا ينفع رباط الخيل إن لم يوجد المرابط؟! وماذا تنفع الخيل الجياد إن لم يكن هناك فارس يجيد قيادها؟! قال المتنبي:

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا

إذا لم يكن فوق الكرام كرامُ

قال رشيد رضا في تفسير هذه الآية: “أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب.. بأمرين: (أحدهما) إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة. (وثانيهما) مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فاجأها العدو على غرة قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخباره من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها، ولذلك عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها”.

5- رباط الخيل في واقعنا المعاصر:

لقد اعتنت الأمة عبر تاريخها بالخيل أيما عناية وحرصت على إعدادها للجهاد أشد الحرص، والمتتبع لكلام أهل العلم يجدهم يفصلون في ذكر أنواع الخيل وعربيها وهجينها والمكان الأنفع في الجهاد لذكورها وإناثها، والصفات المرغوبة فيها؛ فمن ذلك مثلا قول مؤلف غاية المراد في الخيل والجياد: “وتستحب قلة لحم الوجه، ورقته، ورقة قصبة أنفه. ويستحب عرض الجبهة وعريها من اللحم، ولصوق جلدها بها. ويستحب ضيق النقرة المنخفضة في العين. ويستحب سعة حدقة العين وصفاؤها، وسمو طرفها. ويكره في العين الزرقة، وعدم شدة السواد، وغلظ الجفن، وضيق البصر وضعفه، والتي في بياضها نكتة سوداء أو في سوادها نكتة بيضاء. ويستحب في الأنف أن يكون مصفحا مثل الشمم في الناس، ويكره فيه تطامس قصبة الأنف، ويكره فيه الحبس، وهو أن يكون شبه أنف البقر. ويستحب في الخدين عرضهما وإسالتهما وعريهما من اللحم..”.

* واليوم قد تطورت وسائل الجهاد، ولكنها تقوم على نفس الأسس التي قامت عليها الحروب عبر الزمان، فهناك وسائل ومراكب لنقل المجاهد إلى أرض المعركة تساعده في صد العدو وتحرير الأرض، وتلك المراكب تقوم بمهام الخيل في الحروب، فالعناية بتلك المراكب أشد العناية والحفاظ عليها أشد المحافظة وتجهيزها في مرابطها انتظارا لساعة الصفر وترهيبا للعدو، هو من أهم طرق الإعداد التي يجب على المجاهدين العناية بها.

– وكم هو مؤلم أحيانا أن ترى إهمال تلك المراكب من سيارات وناقلات جند، فإذا جاءت المعركة وانطلقت تلك المركبة لهدفها تعطلت في منتصف الطريق أو توقفت قُبيل الهدف بسبب إهمال صيانتها، فأريقت دماء المجاهدين الذين على متنها وتصيَّدهم العدو بسبب إهمال فني بسيط، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

– ألا فليعلم كل قائم على صيانة مراكب المجاهدين وتجهيز ناقلاتهم أنه على ثغر عظيم فيه فضل كبير وتترتب عليه آثار جليلة، فليتقن عمله وليُحكم صناعته، لئلا يؤتى مجاهد من قبله، فالأمر دين ودماء..

– وكذا ليحرص كل فارس امتطى صهوة مركبه أن يتفحص أمره وأن يتأكد من جاهزيته؛ فهو مؤتمن على نفسه وعلى من ركب معه من المجاهدين.

أسأل الله أن يحفظ المجاهدين بحفظه، وأن يرعاهم برعايته، وأن يكتب على أيديهم نصرا مؤزرا قريبا، والحمد لله رب العالمين.

([1]) كتبت سنة 1441هـ.

كتبها

أبو شعيب طلحة محمد المسير

لتحميل نسخة كاملة من كتاب مائة مقالة في الحركة والجهاد  bdf اضغط هنا 

للقرأة من المواقع تابع

مائة مقالة في الحركة والجهاد الشيخ أبو شعيب طلحة المسير

Exit mobile version