رائحة الموت – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٩ – شعبان ١٤٤٦ هـ

مجلة بلاغ العدد ٦٩ - شعبان ١٤٤٦ هـ⁩⁩⁩February 04, 2025

الأستاذ: أبو محمد نصر

من أصعب المشاعر التي يعيشها الإنسان، هي تلك المشاعر التي تكون بين ألمٍ وأملٍ، بين ألم الفراق وأمل اللقاء، فقد يفارق الإنسان شخصًا عزيزًا على قلبه، فيتولد مع هذا الفراق ألمٌ بسبب البعد وانقطاع الأخبار، ولكن رغم هذا الألم يبقى الإنسان على أمل اللقاء، وكم هي كثيرةٌ تلك القلوب التي تعيش بين ألمٍ وأملٍ!!

ومع انطلاق الثورة السورية – ثورة الحق – والتي كانت تنادي بإسقاط النظام المجرم، كان “محمود” من أوائل الثوار الذين شاركوا فيها، فكان يخرج في المظاهرات التي خرجت من الحي الذي يسكنه في مدينة حلب، ومع اشتداد الحملات الأمنية حيث أن النظام المجرم أصبح يداهم منازل الأحرار الذين خرجوا لإسقاطه، مما أجبر عائلات كثيرة على الفرار من محافظةٍ إلى أخرى، ومن مكانٍ إلى آخر هربًا من البطش والقتل والتنكيل والاعتقال، عمل محمود مع بعض أصدقائه على مساعدة تلك العائلات وتأمين كل ما يحتاجونه من طعامٍ وشرابٍ ومبيتٍ، وكان قلبه يعتصر ألمًا من تلك المشاهد التي كان يشاهدها، فالنظام المجرم أعمل آلة القتل فأصبح قتل المتظاهرين شيئًا اعتياديًا، وفَتَحَ سجونه وأفرعه الأمنية لاستقبال الثائرين، فامتلأت السجون حتى أن بعض المدارس والملاعب تحوّلت لمعتقلات إذ أنّ أعداد المعتقلين فاق الخيال والتصور، والتهمة الوحيدة للمعتقلين أنهم خرجوا يريدون الحرية والكرامة!!

كان محمود يعيش حياته الطبيعية مع زوجته وأولاده وأمه الحنون، بالإضافة لقيامه بواجبه تجاه العائلات الهاربة من البطش، ومع تسارع الأحداث لم تعد الطرق السلمية والمظاهرات تجدي نفعًا، إذ أنّ الرصاص لا بد أن يقابله الرصاص، والإجرام لابد له من رادع، فتشكلت كتائب مسلحةٌ لحماية المظاهرات السلمية، ثم تطورت الأمور فتحررت القرى والأرياف وبقيت مراكز المدن تحت سيطرة النظام المجرم، لكن تلك السيطرة لم تكن كاملة، وفي شهر رمضان من عام 1433 ه‍، 2012 م، قامت الكتائب العسكرية المتواجدة بريف حلب بالدخول لمدينة حلب وذلك بقصد تحرير المدينة من النظام المجرم، فجن جنونه وفقد السيطرة على أجزاء من المدينة، وباتت الأوضاع داخل المدينة غير مستقرة، فأرسل محمود أهله إلى الريف ليكونوا في مأمن، وبقي هو داخل المدينة ليقوم بواجبه تجاه دينه وثورته، ولكن جاءه اتصالٌ من صديقه “صبحي” والذي كان يخرج معه بسيارته “التكسي” من أجل توزيع المساعدات على العائلات، الو.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شلونك أخي محمود، بدنا نطلع على الريف في عيلة بدنا نوصلها لهنيك، الأوضاع متل مانك شايف وهي العيلة ضروري نأمن عليهم، فيُجيب محمود وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، أنا جاهز، وبلكي بطريقنا بشوف أهلي وبسلم عليهم، وتواعد محمود وصبحي وانطلقت السيارة دون المرور على حواجز النظام المجرم ووصلوا إلى الريف وبعد تأمين العائلة، ذهب محمود ليرى عائلته وهناك سلم على زوجته وقبّل يد أمه الحنون ثم احتضن أولاده وجلس معهم، ولكن مع شوقه الكبير لأهله وأمه إلا أنه كان على عجلةٍ من أمره، وكأنّه على موعد مع القدر، ولا يدري أن هذا اللقاء هو اللقاء الأخير!!

جهز محمود نفسه يريد العودة إلى المدينة قبل غروب الشمس وكان رمضان قد انتصف، فقالت الأم الحنون لمحمود: يا ولدي افطر معنا اليوم وغدًا صباحًا تنزل، فالليل قد اقترب والأوضاع ليست جيدة، والحواجز منتشرة في كل مكان، وأنا غير مرتاحةٍ لنزولك في هذا الوقت، فقال محمود: سأكون بخير إن شاء الله، لا تنسينا من الدعاء، فكانت هذه آخر كلماته، وضم أولاده إلى صدره مودعًا لهم، ثم انطلق مع صبحي إلى المدينة، وسلكا طريقًا أوصلهما إلى حاجز من حواجز النظام المجرم فتم اعتقالهما، وبدأت رحلة العذاب في الأفرع والسجون، فأفرع النظام الأمنية وسجونه، هي أماكن للعذاب والموت فقط وليس فيها رائحة حياةٍ قط، حتى أن المعتقلين وإن كانت أنفاسهم تتصاعد إلا أنهم موتى، فلقد مات فيهم كل شيء المشاعر والأمل والسعادة والفرح، ولم يبقَ لهم إلا تلك الذكريات التي عاشوها قبل اعتقالهم!!

انقطعت أخبار محمود وصديقه، وباتت أم محمود تذهب بخيالها بعيدًا باحثةً عن ابنها المعتقل، هل هو على قيد الحياة، في أي سجن هو، هل مات، ماذا يفعل، كيف يصبر على العذاب، ماذا يأكل، ماذا يشرب؟؟

أسئلةٌ يتولد معها ألمٌ، وهذا الألم لم يفارقها منذ أن اعتقل ولدها، ومع كل ذلك كانت على أمل أنّ الأيام ستجمعها بولدها من جديد، فكانت كلما سمعت بخروج أحد من السجون أرسلت تسأله عن محمود، بل حاولت دفع الأموال من أجل أن يأتيها خبر واحد يُفرح قلبها الحزين، ولكن يبدو أن الأمل يتبدد، ففوّضت أم محمود أمرها لله وقالت: إن كان محمود على قيد الحياة فيا رب عجل بخروجه، وإن كان قد قتل فيارب تقبله شهيدًا جميلًا، فإني استودعتك ولدي وفلذة كبدي!!

مرت سنوات الاعتقال ثقيلةً تحمل معها الهموم والآهات والآلام، حتى جاءت الأخبار السارة، أنّ الطاغية بشار قد هرب إلى روسيا والمدن تحررت، والسجون والأفرع الأمنية والمعتقلات فُتِحت أبوابها وخرج منها عدد من المعتقلين، فعاد الأمل ليطرق باب أم محمود من جديد، وشعرت أن ولدها محمود ما زال على قيد الحياة فتجهزت للقائه، وجلست ترقب أسماء المفرج عنهم وترى صورهم، وتقول: هذا محمود لا.. لا.. هذا شخص يشبهه، وتقول لأبنائها اذهبوا واسألوا عن محمود، اذهبوا إلى السجون، اذهبوا إلى المستشفيات، لابد أنه في إحداها يتلقى العلاج بسبب العذاب الذي ذاقه داخل السجن، وهذا الحال ليس حال أم محمود فحسب بل حال كثيرٍ من الأمهات ممن انتظرن خروج أبنائهنّ بعد التحرير، ولكن كانت المفاجأة أن آلاف المعتقلين لم يكن لهم أي أثرٍ وكأنّ الأرض انشقت وابتلعتهم، ولم تترك منهم أحدًا!!

لم يشهد التاريخ الحديث إجرامًا كهذا الإجرام، آلاف المعتقلين لم يبق منهم إلا أعداد قليلة، فالنظام المجرم لم يترك وسيلةً ولا طريقةً إلا واستخدمها لقتل الناس في سجونه، ولم يترك مكانًا واحدًا إلا وفيه مقبرةٌ جماعيةٌ تضم آلاف الجثث، ولم يترك في سجونه وأفرعه الأمنية إلا “رائحة الموت” التي تفوح وتفوح معها رائحة الدم لتخبرنا عن أكبر جريمة مرتكبة في العصر الحديث، ولا يكفي أن نذكر هذه الجريمة، بل لا بد من محاسبة كل من ساهم في ارتكابها.

وبعد طول انتظارٍ لم يعد محمود، ولكن ما زالت أم محمود تنتظر عودته، وأظن أن لقاءهما لن يكون على هذه الأرض، لأن محمود ومعه كثير من المعتقلين قد ماتوا في سجون النظام المجرم، وأحسب أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم ينتظرون اللقاء بأمهاتهم وذويهم أيضًا، لكن هذا اللقاء سيكون في جنة الفردوس إن شاء الله.

Exit mobile version