رائحة الجنة – مجلة بلاغ العدد ٦٨ – رجب ١٤٤٦ هـ⁩⁩

الأستاذ: أبو محمد نصر

أتعرفون الباصات الخضر؟!

إنها الشاهد الأكبر على تلك المعاناة التي عاناها الأحرار في يوم تهجيرهم، حيث أنهم صعدوا في تلك الباصات وانطلقوا في رحلةٍ إلى المجهول رغم أنهم يعرفون إلى أين سيذهبون، ولكن كل شيء بالنسبة لهم كان مجهولًا ما هو قادمٌ ومدة البقاء ومتى العودة!!

انطلقت تلك الباصات إلى “السجن الأكبر” حيث اتفق الجميع على وضع الأحرار في مكانٍ واحدٍ، وهذا المكان له “حدودٌ معينة” لا يمكن تجاوزها أو كسرها كما يزعم “أدعياء السياسة” الذين لم يعرفوا من السياسة إلا الخضوع والاستسلام للأمر الواقع، وبعد أن اجتمع الأحرار في هذا السجن بدأت معالم المجهول تظهر مع توقف المعارك، وارتفاع صوت من يقول: لا طاقة لنا في إرجاع ما خسرناه من مناطق، ومع كل ذلك كان “أبو محمد الحمصي” – وهو خريج في كلية الشريعة وطالب علم شرعي ومعلم – على أملٍ كبيرٍ أن الحقوق ستعود لأصحابها يومًا ما، وأن العاقبة للمتقين مهما طال الزمان، فكان في كل مجالسه يحدث الناس عن إمكانية كسر تلك الحدود الوهمية التي حالت دون التحرير، بل كان يقول: لا ينقصنا إلا الإرادة الصادقة بعد التوكل على الله، ولكن “الهزيمة النفسية” والتي أصابت كثيرًا من الناس جعلتهم يظنون أن كلام أبو محمد ضرب من ضروب الخيال، فمن أصعب أنواع الهزائم أن تكون الهزيمة نفسية، وكم من المعارك التي يخسرها الإنسان وتخسرها الأمة بسبب هزيمةٍ نفسيةٍ واحدة!!

رغم كل تلك المعاناة التي كان يعانيها أبو محمد في حديثه مع الناس، ولكن لم يتوقف يومًا عن بث الأمل، وكان يحدث طلابه عن الجهاد وفضله، بل كان يدفعهم دفعًا ليكونوا مجاهدين في سبيل الله، فحب الجهاد إذا دخل قلب إنسانٍ مَلَكَهُ، وهذا ما حصل مع أبي محمد فالجهاد قد مَلَكَ قلبه، فبات حديثه كله عنه، وفي اليوم الموعود كان أبو محمد يجلس بين أهله وهو يشاهد الأخبار، فقد انطلقت معركة التحرير، والمجاهدون قد كسروا الخطوط الدفاعية الأولى للعدو وحرروا بعض المناطق، وإذ بباب البيت يُطرق، فخرج أبو محمد لينظر من على الباب، إنّه أبو القاسم الذي تعوّد أن يصحب أبا محمد في كل معركة يخوضها، فقال أبو محمد: أهلا يا أبا القاسم تفضل بالدخول، فقال أبو القاسم: لا.. فالمعارك على أشدها ولا وقت للجلوس، هاتِ سلاحك وجعبتك وانطلق معي، ففرح أبو محمد أيما فرح، وكأنه على موعدٍ مع سعادةٍ لا يعرف أين هي ومتى ستكون!!

دخل أبو محمد إلى البيت وقد لبس جعبته وأخذ سلاحه، وكم هي صعبة تلك اللحظات “لحظات الوداع” حيث يودع الرجل أهله وزوجته وأولاده على أمل اللقاء، والكل ينادي لا تتركنا، ولكن الفراق قد يتحتم على الإنسان في كثيرٍ من الأحيان، ودَّع أبو محمد كل من كان في البيت، وكأنه يقول لهم: الملتقى الجنة، وانطلق مع رفيق دربه إلى ساحات الوغى، فهناك زخات الرصاص وصوت المدافع ورائحة الجنة، وفي طريق الذهاب كان أبو محمد يقول على مسمع من رفيقه: “اليوم نلقى الأحبة محمدا وصحبه”، وبعد أن وصل أبو محمد إلى الخط الأول، وكانت المعركة في قرية “معارة الأرتيق” في ريف حلب، فلما علم أنه قد وصل إلى المعارة، قال أيضًا بلسان صادق: “إني لأشم رائحة الجنة من معارة الأرتيق”، وانطلق يقاتل في الصفوف الأولى حتى تحررت القرية.

وبعد أن تحررت القرية جلس أبو محمد ليحدث المجاهدين عن ذلك الصحابي الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة وكان يرعى ظهر أصحابه فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم نصبيه من الغنيمة، فأخذ نصبيه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: “ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى ها هنا وأشار إلى حلقه – بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن تصدق الله يصدقك”.

فلبثوا قليلًا ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه السهم حيث أشار فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه!!

وبعد أن انتهى أبو محمد من كلامه عن هذا الصحابي وما أكرمه الله به بسبب صدقه، كان المجاهدون قد تجهزوا لاقتحام كفر حمرة بعد معارة الأرتيق، فانطلق أبو محمد مع رفيقه أبي القاسم وبعض المجاهدين إلى نقاط العدو لتحريرها فوقعوا في كمين محكم، وبدأ الرصاص ينهال عليهم كزخات المطر، فأصيب رفقاء أبو محمد إصابات بليغة، أما أبو محمد فنحسبه أنه كان صادقًا مع الله فقد ارتقى شهيدًا بإذن الله بعد أن شم رائحة الجنة من معارة الأرتيق، حتى أنّ الرصاصة التي قتلته قد مرت من حلقه وكأنّه كان يحدث المجاهدين عن نفسه لا عن ذاك الصحابي!!

رحل أبو محمد الحمصي عن هذه الحياة قائلًا لنا: “الملتقى الجنة” وأكمل المجاهدون معركة التحرير ودخلوا دمشق وصلّوا في المسجد الأموي، حتى أنّ الباصات الخضر وهي الشاهد الأكبر على معاناة المهجرين قد أمست سعيدة لمّا رأت النظام المجرم قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وما زالت رائحة الجنة تنبعث من هنا وهناك ولا يشمها إلا الصادقون ونرجو من الله أن نكون منهم.

Exit mobile version