خطر الإقامة بين أظهر المشركين – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون ⁨رجب ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون رجب ١٤٤٣ هجرية – شباط ٢٠٢٢ ميلادي

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن المفاصلة بين الإسلام والكفر من أهم الأسس التي تقام عليها حياة المسلم في شتى شؤون الحياة؛ اجتماعية كانت أو سياسية أو ثقافية.. إلخ، ولتلك المفاصلة مظاهر عديدة في الاعتقاد والعمل والسلوك.. إلخ، ومن تلك المظاهر المفاصلة في السكن فلا يقيم المسلم بين أظهر المشركين.

ولأهمية هذا المظهر وأثره الخطير خاصة في ظل تزايد أعداد المهجرين المسلمين من سوريا ومصر وفلسطين واليمن والعراق وووو الذين استوطنوا بلاد الكفر في الغرب فتأثر غالبهم بذلك الاستيطان سلبا في دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم وتفكيرهم وأسرهم..، فهذه تذكرة بخطر الإقامة بين أظهر المشركين:

1 – معنى الإقامة بين أظهر المشركين:

الإقامة بالمكان هي لزومه واللبث فيه والثبات به واتخاذه موطنا، كما في لسان العرب وغيره من كتب اللغة، وهي مقابل السفر والظعن، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: “وأما الإقامة فهي خلاف السفر؛ فالناس رجلان مقيم ومسافر. ولهذا كانت أحكام الناس في الكتاب والسنة أحد هذين الحكمين: إما حكم مقيم وإما حكم مسافر. وقد قال تعالى: (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) فجعل للناس يوم ظعن ويوم إقامة”.

وبين أظهر القوم وظهرانيهم أي: “وسطهم وفي معظمهم” كما في القاموس المحيط.

قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: “«فأقاموا بين ظهرانيهم وبين أظهرهم» قد تكررت هذه اللفظة في الحديث، والمراد بها أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيدا، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا منهم وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرهم، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا”.

فالحديث هنا عن الإقامة في مجتمعات المشركين الذي هو نزول بديارهم فيه استقرار ومكوث طويل، وليس مجرد مرور عابر لمسافر بديارهم.

2 – ضرر الإقامة بين أظهر المشركين:

الأصل هو النهي عن الإقامة بين مجتمعات الكفار لما تسببه تلك الإقامة من ضرر على دين المرء؛ ففيها: علو للكفر، واستضعاف للمسلم، وفتنة له عن دينه، ورؤية للمنكرات، واتخاذ الكفار بطانة وأصدقاء.. إلخ، ومما يدل على ذلك:

أ – الإقامة بين المشركين منهي عنها: قال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تراءى ناراهما» رواه أبو داود والترمذي، وصحح إسناده الأرناؤوط في تحقيقه لسنن أبي داود، وفي رواية للطبراني والبيهقي فيها مقال: «من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة»، قال الطيبي في شرح المشكاة في معنى «لا تراءى ناراهما»: “لا يصح ولا يستقيم للمسلم أن يساكن الكافر ويقترب منه، ولكن يبعد بحيث لا تتراءى ناراهما، فهو كناية عن البعد البعيد”.

– وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله، ابسط يدك حتى أبايعك، واشترط علي، فأنت أعلم، قال: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين» رواه ابن ماجه، وصححه الألباني، وإسلام جرير رضي الله عنه في السنة العاشرة من الهجرة أي بعد فتح مكة وانقطاع الهجرة إلى المدينة، ففي البخاري في رواية جرير رضي الله عنه عن المسح على الخفين، قال إبراهيم النخعي عن روايات جرير رضي الله عنه: “فكان يعجبهم لأن جريرا كان من آخر من أسلم”، فدل ذلك على أن مفارقة المشركين أمر غير الأمر بالهجرة إلى المدينة.

– وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن أقيش: «إنكم إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم الخمس من المغنم، ثم سهم النبي، والصفي، وربما قال: وصفيه، فأنتم آمنون بأمان الله، وأمان رسوله» رواه أحمد، وصححه الألباني.

– وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» رواه أبو داود، وفي رواية الترمذي: «لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم» والحديث حسنه بمجموع طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملا حتى يفارق المشركين إلى المسلمين» أخرجه النسائي وابن ماجه، وحسنه الألباني.

 

ب – الإقامة بين المشركين تضاد الهجرة المأمور بها: قال إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي).

– وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» أخرجه أحمد، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد» أخرجه أحمد، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب» أخرجه أحمد، وحسنه الألباني في الإرواء.

– وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لجيوشه: «ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين» رواه مسلم، وقد نص النووي في شرح مسلم أن هذا الحديث يدل على استحباب هجرة الأعراب إذا أسلموا إلى أمصار المسلمين وأنه ليس منسوخا، فقال: “معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو فتجري عليهم أحكام الإسلام ولا حق لهم في الغنيمة والفيء، وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها..، وقال أبو عبيد: هذا الحديث منسوخ..، وهذا الذي ادعاه أبو عبيد لا يسلم له”.

وقال الشوكاني في نيل الأوطار: “فيه ترغيب الكفار بعد إجابتهم وإسلامهم إلى الهجرة إلى ديار المسلمين؛ لأن الوقوف بالبادية ربما كان سببا لعدم معرفة الشريعة لقلة من فيها من أهل العلم”، فإذا كانت الهجرة من البادية لأمصار المسلمين مشروعة فكيف بالهجرة من أمصار المشركين.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه، فالهجرة الخاصة إلى المدينة النبوية نسخت بعد فتح مكة، وبقيت الهجرة العامة، قال ابن حجر في الفتح: “قوله: «ولكن جهاد ونية»، قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك”.

ج – الإقامة بين المشركين فيها إعطاء الدنية في الدين وسبب لجريان أحكام الكفر على المسلم: يعمل الشيطان وأولياؤه على صد المسلمين عن دينهم خاصة إذا وقع المسلمون في سلطانهم، ويُخضع الكفار من نزل بهم من المسلمين لقوانينهم ونظمهم وأحكامهم الكافرة بدعاوى كسيادة القانون والحفاظ على هوية البلد ودمجهم في المجتمع؛ فيصد ذلك المسلم عن كثير من شرائع وشعائر الإسلام الخاصة والعامة كصلاة الجمعة والجماعة، والزواج، والطلاق، والميراث، وتربية الأبناء، والحجاب، والدعوة، والتعليم، ويدعونه للقتال معهم والولاء لوطنهم..، وكم تعرض المسلمون الذين أقاموا بين المشركين لمصائب في عقائدهم وأنفسهم وأزواجهم وأولادهم، وانسلخت -وواأسفاه- أمم من الإسلام بسبب ذلك، قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قال ابن رشد في المقدمات: “وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين ويقيم بين أظهرهم؛ لئلا تجرى عليه أحكامهم“.

– وقال جل وعلا: (وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) وهو خبر يتضمن النهي عن جعل سبيل وسلطان للكافرين على المؤمنين، قال القرطبي في تفسيره: “إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا، فإن وجد فبخلاف الشرع”.

– وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) فبينت الآيات أن الذين تركوا الهجرة ورضوا بالاستضعاف عند الكفار هم من الظالمين أنفسهم الذين مأواهم جهنم، وهذا خلافا لمن عجز حقا عن الهجرة ولم يستطع حيلة ولا اهتدى سبيلا فهذا من أهل الأعذار، وبينت الآيات أن المهاجر في سبيل الله سيعوض في هجرته بالخيرات والسعة.

– وقال تعالى: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال السعدي في تفسيره: “إذا تعذرت عليكم عبادة ربكم في أرض فارتحلوا منها إلى أرض أخرى؛ حيث كانت العبادة لله وحده فأماكن العبادة ومواضعها واسعة والمعبود واحد”.

– وقال جل وعلا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)، ففي هذه الآية نهي عن اتخاذ بطانة من المنافقين يولونهم بعض الأعمال العامة، فالنهي عن أن يكون المسلم بطانة للكافر من باب أولى.

– وقال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» رواه البخاري.

ولهذه المعاني حذر الفقهاء من إنجاب الذرية في بلاد الكفر، ففي الموسوعة الفقهية: “ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه يكره للمسلم أن يطأ حليلته في دار الحرب مخافة أن يكون له فيها نسل؛ لأنه ممنوع من التوطن في دار الحرب..، وإذا خرج من دار الحرب ربما يبقى له نسل فيها فيتخلق ولده بأخلاق المشركين، ولأن موطوءته إذا كانت حربية فإذا علقت منه ثم ظهر المسلمون على الدار ملكوها مع ما في بطنها، ففي هذا تعريض ولده للرق، وذلك مكروه. وقال الحنابلة: لا يطأ المسلم زوجته في دار الحرب نصا إلا للضرورة فإذا وجدت الضرورة يجب العزل”.

د – الإقامة بين المشركين من أعظم أسباب المداهنة في الدين والتنازل عن المبادئ والثوابت: فهي سبب للخوض في آيات الله بالباطل، وسماع الكفر، والركون للظالمين، وعدم إظهار العداوة للكفار، وترك تغيير المنكر، واتخاذ الكفار أخلاء وجلساء، بل وتغيير اللغة خاصة في جيل الأبناء والأحفاد الذين ينشؤون في تلك المجتمعات.. إلخ، والله عز وجل يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

– وقال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا).

– وقال سبحانه: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).

– وقال جل وعلا: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).

– وقال تعالى: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

– وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم، قال ابن العربي في شرح الموطأ: “المنكر إذا لم يُقْدَرْ على تغييره لم يقم في تلك الأرض”، وقال الرملي في شرح روض الطالب: “المقام على مشاهدة المنكر منكر”، وقال ابن رشد الجد في المقدمات: “كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يُسب فيه السلف، فكيف ببلد يُكفر فيه بالرحمن، وتُعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان”.

إذا شاع في أرض فساد ومنكر

وليس بها ناه مطاع وزاجر

ففر ولا تصبح مقيما ببلدة

يقل بها عرف وتفشو المناكر

فإن عقاب الذنب عند خفائه

يخص وإن يظهر يعم المجاور

ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية عن ابن عقيل قوله: “إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة”.

– وقال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)، ويقول الظالم يوم القيامة: (يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» متفق عليه.

هـ – الإقامة بين المشركين تؤدي للبراءة من دم المقيم بينهم: الحرب بين المسلمين والكافرين أبدية والجهاد ماض ومكر الكفار كُبَّار، فإقامة المسلم بين أظهر الكافرين قد تعرضه للإصابة بالخطأ عند القتال بين المسلمين والمشركين، وهي إصابة تسبب فيها هو بإقامته بين المشركين، قال تعالى: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فليس في ذلك الدية كما في غيره من المسلمين، وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» بعد أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فاختلط أمرهم على بعض الصحابة، ووقع القتل على الساجدين من خثعم كذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن الإقامة بين المشركين وأعلن براءته ممن يقيم بينهم، ويروى بأسانيد ضعفها بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم نصف الدية، قال الشافعي في الأم: “إن كان هذا يثبت فأحسب النبي صلى الله عليه وسلم أعطى من أعطى منهم متطوعا، وأعلمهم أنه بريء من كل مسلم مع مشرك والله أعلم في دار الشرك ليعلمهم أن لا ديات لهم ولا قود، وقد يكون هذا قبل نزول الآية فنزلت الآية بعد، ويكون إنما قال إني بريء من كل مسلم مع مشرك بنزول الآية. وفي التنزيل كفاية عن التأويل؛ لأن الله عز وجل إذ حكم في الآية الأولى في المؤمن يقتل خطأ بالدية والكفارة وحكم بمثل ذلك في الآية بعدها في الذي بيننا وبينه ميثاق، وقال بين هذين الحكمين: (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ولم يذكر دية، ولم تحتمل الآية معنى إلا أن يكون قوله: (مِنْ قَوْمٍ)، يعني في قوم عدو لنا دارهم دار حرب مباحة، فلما كانت مباحة، وكان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إذا بلغت الناس الدعوة أن يغير عليهم غارين، كان في ذلك دليل على أنه لا يبيح الغارة على دار وفيها من له إن قتل عقل أو قود، فكان هذا حكم الله عز ذكره..، وإذا دخل مسلم في دار حرب ثم قتله مسلم، فعليه تحرير رقبة مؤمنة ولا عقل له إذا قتله وهو لا يعرفه بعينه مسلما، وكذلك أن يغير فيقتل من لقي أو يلقى منفردا بهيئة المشركين في دارهم فيقتله، وكذلك إن قتله في سرية منهم أو طريق من طرقهم التي يلقون بها، فكل هذا عمد خطأ يلزمه اسم الخطأ؛ لأنه خطأ بأنه لم يعمد قتله وهو مسلم وإن كان عمدا بالقتل”.

 

3 – الإقامة بين أظهر المشركين لعارض:

المنع من الإقامة بين أظهر المشركين هو الأصل لما في تلك الإقامة وما ينتج عنها من أضرار على دين المرء ودين من يعول، وهي أضرار ظاهرة متكررة مطردة لا يشذ عنها إلا النادر.

لذا فإن النظر للنادر العارض الذي يجيز الإقامة بين أظهر المشركين ينبغي أن يكون في حدود الضوابط المتعلقة بذلك الاستثناء، مع الحذر من التوسع والتساهل في تلك الإقامة العارضة للحاجة كي لا تخرج عن حكم الجواز إلى المنع.

ومن أمثلة تلك الإقامة العارضة للحاجة: الدعوة إلى الله جل وعلا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب علم نافع تحتاجه الأمة، وعلاج لم يتوفر إلا في ديارهم، وتجارة فيها مصلحة معتبرة، وعجز حقيقي عن الانتقال من المقام بينهم إلى المقام بين المسلمين..، وما شابه ذلك.

ويشترط في تلك الإقامة المؤقتة للحاجة المعتبرة -إن لم يكن المرء بحالة عجز حقيقي عن الهجرة-:

قوة إيمان يغلب على الظن أن يثبت المرء بها أمام الشبهات والشهوات التي يتوقع ورودها في تلك المجتمعات.

وقوة واقع تمكنه من حفظ الدين وإظهاره لكون المرء مطاعا في قومه أو له عشيرة تحميه أو من مجتمع يأبى وقوع الضيم على أبنائه وما شابه ذلك.

والحاجة المعتبرة مدة تلك الإقامة فإن زالت الحاجة زال سبب الإقامة، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما.

قال ابن حجر في الفتح مبينا بعض أحوال الناس في دار الكفر: “قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة؛ الأول: قادر على الهجرة منها لا يمكنه إظهار دينه ولا أداء واجباته فالهجرة منه واجبة، الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه وأداء واجباته فمستحبة لتكثير المسلمين بها ومعونتهم وجهاد الكفار والأمن من غدرهم والراحة من رؤية المنكر بينهم، الثالث: عاجز يعذر من أسر أو مرض أو غيره فتجوز له الإقامة فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر”.

وقال الجمل في حاشيته مبينا مؤثرات في حكم الإقامة في ديار الكفر التي قد تغير الحكم الأصلي: “ينتظم في هذا المقام اثنان وثلاثون صورة؛ لأنه إما أن يمكنه إظهار دينه أو لا، وعلى كل إما أن يرجو ظهور الإسلام بمقامه أو لا، وعلى كل إما أن يمكنه الاعتزال هناك أو لا، وعلى كل إما أن يخاف فتنة في دينه أو لا، وعلى كل إما أن يرجو نصرة المسلمين أو لا”.

4 – التنزيل على الواقع في ظل انتشار الجاهلية المعاصرة:

الواقع المعاصر واقع مؤلم في مجمله تنتشر فيه الجاهلية انتشارا كبيرا، والحكم بالطاغوت ظاهر في أكثر البلدان، وتنزيل أحكام الديار وما يتبعها على هذا الواقع يعترضه غالبا تعارض المصالح وموازنة المفاسد، وما أدق قول محمد الخضر الشنقيطي المتوفى سنة 1354هـ في كوثر المعاني: “وقد أطلت في بحث الهجرة لمسيس الحاجة به في هذا الزمان إن وُجد بلد يُهاجَر إليه“، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

– فأهم المصالح التي ينبغي على المرء البحث عنها وتقديمها هي دينه؛ فالحفاظ على الدين هو أهم الضروريات وأولى الواجبات، فالمكان الذي تمكن فيه المحافظة أكثر على الدين مقدم على غيره من الأماكن، وحفظ النفس والنسل مقدم على حفظ المال، وهكذا.

– والمكان الذي تقل فيه المنكرات أقل شرا من المكان الذي تزداد فيه، قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: “روى أشهب عن مالك: لا يقيم أحد في موضع يعمل فيه بغير الحق. فإن قيل: فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك، قلنا: يختار المرء أقلها إثما؛ مثل أن يكون بلد به كفر فبلد فيه جور خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام، أو بلد فيه معاصي في حقوق الله فهو أولى من بلد فيه معاصي في مظالم العباد”.

– والإقامة بين أظهر المشركين المحددة بمدة قصيرة كشهر أو عدة شهور أقل شرا من الإقامة الطويلة الأمد، والإقامة الطويلة الأمد أقل شرا من أخذ جنسية بلد كافر للإقامة الدائمة.

– والإقامة بمكان فيه مسلمون كُثر استطاعوا خلال إقامتهم بين أظهر المشركين تخفيف بعض الشر، أو الإقامة بين الأهل المسلمين الذين يشكلون بيئة اجتماعية محافظة، أقل شرا من الإقامة بمكان أكثر شرورا لقلة المسلمين فيه أو لبعده عن أهله.

* وختاما: فإن الفرار من الإقامة بين أظهر المشركين في هذا العصر وفي ظل هذه الظروف، عبادة الأخيار التي غابت عن أذهان كثير من الناس لغربة شعائر الإسلام في هذا الزمان، فطوبى للغرباء الذين يرون أفواج الجهال من المسلمين تتسابق للسفر إلى بلاد الكفار وتسعى جاهدة للإقامة بينهم والحصول على جنسيات دولهم، وهم -أي الغرباء الأخيار- يفرون من تلك الإقامة ويهربون من زخارف الشيطان الكاذبة الداعية إلى نار جهنم، ويقيسون الأمور ويزنون الأوضاع بميزان الحق والباطل لا بموازين الأهواء والشهوات التي يزن أكثر الناس بها الأمور، وهم سعيدون بتلك الهجرة في سبيل الله رغم ما يعتريهم في طريقها من الشدائد؛ لأنهم يحققون بها هدفهم من هذه الحياة الدنيا الدنية الفانية، فلله درهم وعليه أجرهم وهو حسبهم ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٣ رجب ١٤٤٣ هـ

Exit mobile version