الأستاذ: أبو محمد نصر
قررت منظمة تعمل في الشمال المحرر توزيع قسائم مالية بقيمة “مئة دولار” لبعض العوائل، ومن أجل ذلك خرج موظفو المنظمة بجولات على المنازل من أجل استبيان العائلات المستفيدة، ومعرفة أحوالهم المعيشية، وهذا في عُرف المنظمات أمرٌ ضروريٌ حتى تصل المساعدة لمن يستحقها كما يدّعون!!
وبعد إجراء الاستبيان كان هناك شرطٌ عند المنظمة حتى تستحق العائلة المئة دولار وهو حضور “رب الأسرة” محاضرةً بعنوان “طرق الادخار” في المركز الرئيسي للمنظمة، وهذا الذي حصل فتم تحديد موعد المحاضرة، واجتمع الناس من كل حدبٍ وصوبٍ في الموعد المحدد، وكان القسم الأكبر من المستفيدين هم من “المهجرين” الذين تركوا كل ما يملكون وخرجوا من مدنهم وبلداتهم وقراهم وذلك بسبب القصف الهمجي والقتل الممنهج وتناثر الأشلاء والاجتياح البربري الذي تبعه احتلال كثيرٍ من المناطق من قبل النظام المجرم.
وعند باب المنظمة كان اللقاء “لقاء المشتتين” الذين تفرقوا في البلاد شرقًا وغربًا فجلس أحدهم في خيمةٍ لا تقيه حر الصيف ولا برد الشتاء، وجلس الآخر في بيت هو لقن الدجاج أقرب، وكان من بين المشتتين رجل يدعى أبو عبدو المعرّاوي وهو من أبناء معرة النعمان ومن أشهر قصابيها، وقبل الدخول للمحاضرة نظر أبو عبدو بين الجموع فإذ به يرى وجوهًا ليست بغريبة، وهي “وجوه معرّاوية”، ولكن الظروف والأوضاع المعيشية الصعبة قد غيرت ملامح الكثير، ولولا بقاء بعض الملامح لما عرف أحدٌ الآخر!!
فنادى أبو عبدو بصوت مرتفعٍ عندما رأى سعيد ابن حج حسين الفرّان، ومعه أبو محمد العطار، يا سعيد ألم تعرفني؟؟ أنا عمك أبو عبدو، فقال سعيد: وهل يخفى القمر ملك القصابة وشيخ الكار وسيد من ذبح خواريف بالمعرة كلها، وسلم الجميع على بعضهم سلامًا حارًا، وطال العناق، حتى نادى المنادي من داخل مبنى المنظمة قد حان موعد المحاضرة، فدخل الناس إلى القاعة وجلس كلٌ منهم في مكانه، وجلس أبو عبدو وسعيد وأبو محمد العطار مقابل الشاشة التي ظهر فيها عنوان المحاضرة وهو: “طرق الادّخار”، والادّخار هو الاحتفاظ بجزءٍ من المال في وقت الرخاء لوقت الحاجة، ولكن أن يكون الكلام عن الادخار في وقت الحاجة من الأمور المضحكة المبكية.
بدأ المحاضر محاضرته وقد قسمها إلى قسمين، يتخللهما استراحة لمدة عشر دقائق، وقد أطال الحديث عن الادّخار وطرقه، وكيف يمكن للإنسان أن يوفر من المدخول الشهري بعض المال -إن كان هناك مدخول-، وكان من بين فقرات المحاضرة فقرة الأسئلة، وكان سؤال المحاضر هو ماذا ستفعلون بالمئة دولار؟
فبدأ الحاضرون بالجواب، حتى وصل الدور إلى ملك القصابة أبو عبدو والذي بلغ من العمر ستين عامًا وأصابه في سنواته الأخيرة مرض انسداد الشرايين وارتفاع الضغط المستمر وارتفاع السكر، فقال: هذا المبلغ قد يكفي لشراء أدويتي الشهرية وشراء بعض مسلتزمات للبيت من طعام وغيره وقد لا يكفي، فالدواء أسعاره صارت بالنار والمريض مثلي الموت عنده أهون من المعاناة الشهرية التي يعانيها من أجل شراء الدواء وذلك لأنه لا يجد المال.
وأما سعيد ابن حج حسين الفرّان فقال: يا أستاذ سؤالك قد فتح علينا الجراح، فابني الكبير ينتظر قدوم المئة دولار حتى أشتري له لوازم المدرسة من دفاتر وأقلام وغيرها، وابنتي الصغيرة تنتظر بفارغ الصبر شراء حذاء جديد لها، وذلك لأن حذاءها القديم قد تمزق، وأما زوجتي فيا حسرتي عليها وهي التي لم تشترِ ثوبًا جديدًا منذ أن فارقنا بيتنا، وليس هذا فحسب بل أبو زكور السّمان في كل يوم ينتظرني أمام دكانه حتى أدفع له شيئًا من الديون التي تراكمت علي وغير ذلك الكثير وكما يقولون: “خليها بالقلب تجرح ولا تطلع لبرا وتفضح”.
وأما أبو محمد العطار فقال: يا أستاذ تتكلم عن “الادّخار” وكأنك تظن أن مال قارون عندنا، وينقصنا فقط معرفة طريقة الادّخار الصحيحة، يا أستاذ كثيرٌ من أبناء المحرر أصبح يتمنى الموت، وليس ذلك حبًا للموت ولكن خلاصًا من هذه الحياة، التي أصبحنا نرى فيها أموالنا نحن الفقراء قد نُهبت ووضعت في جيوب عديمي الشرف والأمانة، بل أصبح الموت أهون عندنا من مشاهدة أطفالنا وهم يبكون من أجل أن نشتري لهم “لعبة” ونحن لا نملك ثمنها، يوم كنا في المعرة كنا نملك الكثير، أما اليوم فلا نملك إلا المبادئ التي نعيش من أجلها ونموت من أجلها ولا نساوم عليها رغم كل ما نمر به من ظروف، حتى المئة الدولار نحن لن نملكها لأنها ستذهب مباشرة لأصحاب الحقوق علينا، وهنا توقف المحاضر عن الأسئلة فقد حان وقت الاستراحة.
وجلس كل مهجرٍ مع أبناء مدينته، أما سعيد فأحب أن يُذكّر العم أبو عبدو بأيام المعرة الجميلة، فقال يا عمي أبو عبدو: هل تذكر عندما كنت تأتي من الصباح الباكر لتفتح دكانك في السوق وتأتي بالخرفان السمينة وتذبحها أمام الدكان وتعمل على سلخها وتعليقها حتى يراها الناس، وتعمل على تنظيف آثار الدماء من الأرض وكأنك بائع زهور لا بائع لحم، فقال أبو عبدو: آه يا سعيد على تلك الأيام يا ليتها تعود، يا ليتني أعود إلى المعرة ولو ليومٍ واحدٍ قبل موتي، يا ليتني أعود إلى السوق الذي تربيت فيه وتعلمت فيه من أبي مهنة القصابة، وعلمني فيه أيضًا الأمانة وحب الآخرين واحترام الجيران، فقال أبو محمد العطار: طيب يا عمي أبو عبدو إذا قالوا لك إن المعرة تحررت الآن ونحن نبعد عنها سبعين كيلو متر من مكاننا هذا ماذا ستفعل؟
فقال أبو عبدو: سأذهب إليها مشيًا على الأقدام، ولكن أظن أن الموت سيدركني قبل أن يتحقق هذا الحلم، فمنذ أن فارقت المعرة وأخذت أغراضي منها، ما زلت أحلم أن أعود إليها، ليس أنا فحسب بل كل من فارق أرضه يحب أن يعود إليها، فمن الصعب أن تعيش “غريبا” وأنت في بلدك، فالكل ينتظر خروجك من قريته أو بلدته أو مدينته لأنك سببٌ لكل الأزمات، بل إذا لم تكن تعرف العنصرية فتعال شاهد ما يُفعل بنا لتعرف ما معنى العنصرية، ومع كل ذلك فنحن المشتتون أو كما يسموننا “المهجرين” لا نريد هذه القرى ولا هذه المنظمات ولا نريد البقاء هنا، بل لنا حلمٌ واحد ندعو الله أن يتحقق ألا وهو العودة إلى ديارنا، فقال جميع الحاضرين: سنعود إلى بلادنا بإذن الله تعالى، وهنا دخل المحاضر ليكمل محاضرته عن “طرق الادّخار” ولما انتهى، خرج الناس من باب المنظمة وهم في حيرةٍ من أمرهم هل ينتظرون موعد تسليم المئة دولار، أم ينتظرون تحقق حلم أبو عبدو ألا وهو “حلم العودة”!!
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا