حقوق أسرى المسلمين وأهلهم على الأمة – الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٢٦ – ذو الحجة – ١٤٤٢ هـــ

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

ففي زمن الغربة، وعصور القهر والظلم، وجاهلية الحضارة المعاصرة، اشتد الأذى على المسلمين عامة، وعلى الصالحين منهم خاصة، ومن صور تلك الأذية وقوع الأسر عليهم، ودخولهم السجون الظالمة..

والسجن بلاء شديد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم “يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء” متفق عليه، وهي معان يتحقق كثير منها عادة في السجون.

ولأن السجن بلاء شديد فهذا يوسف عليه السلام يردد شكر الله جل وعلا وحمده بعد سنين من خروجه من السجن قائلا: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ).

ولعموم البلاء بتلك المصيبة في زمننا الحالي، كانت هذه التذكرة بحقوق أخواتنا وإخواننا الأسرى في سجون الإجرام، قياما ببعض حقهم الذي أوجبه الله جل وعلا لهم.

1- المقصود بأسرى المسلمين:

كلمة الأسر تطلق على كل محبوس وسجين؛ لكن يغلب استعمالها في الحبس الذي سببه العداء أو الحرب والقتال، خاصة وأن كلمة الأسر مأخوذة من الإسار وهو القيد الذي يشد به المرء كي لا يهرب، وأكثر ما تكون العناية بالشد والقيد عند العداء وفي الحرب والقتال كي لا يهرب الأسير، بخلاف المحبوس في جريمة اجتماعية فلا تكون العناية بتقييده عادة كالعناية بتقييد من بينهما عداء.

والمقصود بأسرى المسلمين هنا، هم المسلمون الذين دخلوا السجن بسبب الحق الذي معهم، سواء كان الآسر طاغوتا كافرا أو طاغية منتسبا للإسلام، وسواء كان الأسير مجاهدا أو داعية أو من عامة المسلمين طالما أن سبب أسره هو الحق الذي معه، فليس الحديث هنا عن عامة المساجين، ولا عن الذين دخلوا السجون جزاء جنايتهم غير المشروعة، فهم وإن كانت لهم حقوق فإن هذا ليس مقصود هذه المقالة.

وحقوقه محل البحث هنا هي حقوقه على الأمة المسلمة، وليست حقوقه على الظالم الذي أسره.

2- حق الأسير على الأمة:

أ- السعي بكل وسيلة شرعية لفكاك أسره:

فقد أجمعت الأمة على وجوب السعي في فكاك أسرى المسلمين المظلومين بكل وسيلة شرعية، قال ابن بطال في شرح البخاري: “فكاك الأسير فرض على الكفاية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “فكوا العاني” وعلى هذا كافة العلماء”.

وقال ابن حزم في مراتب الإجماع: “واتفقوا أنه إن لم يقدر على فك المسلم المأسور إلا بمال يعطاه أهل الحرب أن إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب”.

وقال القرطبي في التفسير: “قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع…، وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين؛ إما بالقتال، وإما بالأموال وذلك أوجب لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه”

وقال العظيم آبادي في عون المعبود: “(وفكوا العاني) أي الأسير، وفكه تخليصه بالفداء، أي أخلصوا الأسير المسلم في أيدي الكفار أو المحبوس ظلما”.

وهذا الإجماع المنقول مستند إلى أدلة كثيرة عامة وخاصة؛ فالأدلة العامة مثل الأدلة الكثيرة في النهي عن المنكر ونصرة المظلوم والتداعي لشكوى المسلم..، وهي أدلة يدخل فيها دخولا أوليا فك أسر المسلم المظلوم.

والأدلة الخاصة كقوله صلى الله عليه وسلم: “فكوا العاني” رواه البخاري، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بـ “فكاك الأسير” متفق عليه.

وذكر الله جل وعلا حال أهل الكتاب وأن فداء الأسرى مما شرعه في الكتاب السابق، فقال سبحانه: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، وقد كتب القرطبي في تفسير تلك الآية متألما ناعيا زمانه، فقال: “ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن، فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.

وقد أمر الله جل وعلا بالجهاد لاستنقاذ المستضعفين من المسلمين وإن لم يكونوا أسرى، فدل ذلك على أن استنقاذ الأسرى أوجب، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا).

– وفكاك الأسير هو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشعبة من شعب الجهاد في سبيل الله تعالى، فيكون بما يتحقق به المقصود، ويدفع الأسر بما يناسبه:

فإن كانت الكلمة تدفعه فهي واجبة، كأن تكون الشفاعة نافعة في فكاك الأسرى أو الدعوة والتذكير أو التحريض والضغط الإعلامي أو التظاهر أو الاعتصام أو الإضراب.. إلى غير ذلك، ومن عجيب أثر الكلمة أن ابن تيمية خرج للقاء قائد التتار يطلب منه فكاك الأسرى فاستجاب له وأطلق كثيرا منهم، قال ابن كثير في البداية والنهاية: “خرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مخيم بولاي، فاجتمع به في فكاك من معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيرا منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد”.

وإن كان المال هو الذي يفك القيد فهو متعين، ويُدفع من بيت المال ومن الزكاة والصدقات والهبات، وعند الضرورة المعتبرة شرعا يؤخذ من عموم الأمة بما يحقق المصلحة المعتبرة شرعا فلا ضرر ولا ضرار.

وإن كان تبادل الأسرى هو الذي يحقق ذلك سُعي فيه، سواء بإجراء التبادل إن كان عند الأمة أسرى للعدو، أو بأسر من يجوز أسره بغرض التبادل، وعندما وقعت امرأة من فزاعة في أسر المسلمين “بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة” رواه مسلم.

وإن كان الجهاد هو السبيل لتحريرهم تعين على الكفاية، حسب الفقه الشرعي الأصيل الذي يوازن بين المصالح والمفاسد ويحدد القدرة والعجز ويقدر الاستطاعة المعتبرة شرعا.

وأين الفارس المغوار يأتي

يفك القيد أعياني الزفير

أيهنأ عيشكم يا قوم إني

أُجرَّع كأس حنظلهم مرير

 

ب- السعي للتخفيف عن الأسير ومواساته:

قد يتأخر فكاك الأسير، ولكن قد يمكن مع ذلك التخفيف عنه بعض معاناته، ومواساته، وإدخال بعض السرور على نفسه، وعندها فالميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك جله، والتكليف على قدر الاستطاعة، “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” متفق عليه، فينبغي عند ذلك السعي في تحقيق تلك الأمور على أحسن الوجوه، سواء من خلال ما يسمح به الطاغية من زيارات أو اتصالات أو مشتريات..، أو من خلال ما قد يتوفر أحيانا من تهريب أو رشوة لزبانية الطغاة وما شابه ذلك، قال أبو الشعثاء: “ما وجدنا في زمن الحجاج شيئا خيرا من رِشًى”.

وإذا كان الله جل وعلا مدح من يطعم الأسير الكافر الطعام الجميل المحبوب، فقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)، فكيف بمن يطعم الأسير المسلم المظلوم في سجون المجرمين؟!!

وإذا كان القرآن الكريم رغب أسرى قريش في الخير إن أصلحوا قلوبهم، فكيف الحال بترغيب أسرى المسلمين في الخير الذي ينتظرهم؟ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

ج- الدعاء له:

الدعاء من أهم وسائل التصدي للشيطان وحزبه والمطيعين أمره، وكم جعله الله سببا في قصم المجرمين وهلاك الجبابرة ونصر المسلمين وعز المؤمنين، فلا تنبغي الغفلة عنه، ولرُبَّ صادق قانت يكون دعاؤه أمضى من ألف سيف، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء للأسرى، ومن ذلك قنوته صلى الله عليه وسلم في صلاة الجماعة قائلا: “اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر” متفق عليه.

د- التذكير به واستكمال طريق الحق الذي سار فيه:

الأسرى المسلمون الذين كبلتهم قيود الطغيان، هم من الذين ابتلوا في جنب الله جل وعلا، وسلكوا طريق الحق فأوذوا في سبيل الله سبحانه وتعالى، فلهم فضلهم وسابقتهم التي ينبغي أن تُعرف فتُذكر فتُشكر، و “من لا يشكر الناس لا يشكر الله” رواه أبو داود والترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا” رواه مسلم، قال مسلم في مقدمة صحيحه: “لا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يُرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته، وقد ذُكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم“”.

فاستكمال السير على طريق الحق الذي ساروا فيه هو من وفاء بعض حقهم على الأمة، وهو إغاظة للأعداء الذين مهما فعلوا فالله متم نوره ولو كره الكافرون.

ويدخل في ذلك الدفاع عنهم وعن قضيتهم ضد البهتان والزور ودعاوى الكذب والفجور؛ فإن من عادة الطغاة أن يشيعوا قالة السوء عن الأسارى ويتهموهم بأبشع التهم ليغطوا حقيقة جريمتهم وسوء كبرهم ومكرهم، قال صلى الله عليه وسلم: “من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة” رواه الترمذي.

* حق أهل الأسير على الأمة:

أ- مواساتهم والتخفيف عنهم:

المجتمع المسلم مجتمع متراحم يتواصى بالصبر وهو كالبنيان يشد بعضه بعضا، فيقف المرء فيه بجانب المكلوم يواسيه ويسليه، يبشره ويمنيه، يثبته ويشجعه ويقويه..

فالأسير المسلم المظلوم هو مبتلى على درب الأنبياء والصالحين الذين هم أشد الناس بلاء، ويا لها من منزلة عظيمة، منزلة البذل في سبيل الله تعالى، والصبر على ما في هذا الطريق من بلاء هو شرط تحصيل الأجر وقبول العمل، ثم تكون العاقبة: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ).

وليتذكر أهل الأسير أن الصبر يكون بالاستعانة بالله وملاحظة معيته لعباده: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

والصلاة هي قرينة الصبر في العون على شدة البلاء: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

فيبشرهم المرء ويبث فيهم روح التفاؤل؛ فأسير اليوم هو شعلة الحاضر والمستقبل للأمة؛ فلا يمكَّن المرء حتى يبتلى فيصبر ويشكر؛ لقد خرج يوسف عليه السلام من ضيق السجن إلى التمكين على خزائن الأرض، وخرج أحمد بن حنبل من السجن إماما لأهل السنة، ومات سيد قطب في السجن ولكن كلماته بقيت خالدة تحيي الجيل بعد الجيل، يرددون كلماته المباركة:

أَخِي أنت حرٌّ وراء السدود

أخي أنت حرٌّ بتلك القيود

إذا كنت بالله مستعصما

فماذا يَضيرُك كيدُ العبيد؟!!

أخي ستبيد جيوش الظلام

ويُشرق في الكون فجر جديد

فأطلق لروحك إشراقها

ترى الفجر يرمقنا من بعيد

ب- النصيحة لأهل الأسير وماله:

الأسير المظلوم في سجون الطغيان يدخل في عموم المجاهدين في سبيل الله تعالى، والنصيحة لأهله من والد ووالدة وإخوة وزوجة وأبناء وأقارب، وكذلك النصيحة لماله بالخير، أجرها عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا” متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: “لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما” رواه مسلم.

وكلما كملت مروءة المرء كملت عنايته بأهل الأسير ورعايته لهم، رعاية مادية وخدمية وتعليمية وتربوية.. إلى غير ذلك من أمور تعوضهم شيئا من مقام أسيرهم، وهي عناية منها ما يباشرها الرجل بنفسه ومنها ما يباشرها عن طريق محيطه؛ فهو يسعى لهم في الشؤون العامة في نواحي المجتمع، وزوجته تسعى مع زوجة الأسير في شؤونها، وأبناؤه يسعون مع أبناء الأسير في شؤونهم، وهكذا..

 

ج- صيانة حرمتهم:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟” رواه مسلم، قال النووي في شرح مسلم: “هذا في شيئين؛ أحدهما: تحريم التعرض لهن بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك، والثاني: في برهن والإحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة ولا يتوصل بها إلى ريبة ونحوها”.

فاللهَ اللهَ في حفظ وصيانة حرمة الأسير المظلوم وحقوقه وحرمة وحقوق أهل بيته؛ فالشأن في ذلك عظيم جد عظيم.

 

أسأل الله أن يعجل بفك أسرى المسلمين وكسر قيدهم وهلاك الطغاة المتجبرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا  

لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا 

Exit mobile version