الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛
فإن ظاهرة حماية المجرمين لأهداف حزبية وفصائلية تستدعي تنبيها وتحذيرا لمن فيهم خير من الجنود؛ كي لا يكونوا شركاء للمجرمين في: استهزائهم بالدين، وانتهاكهم الأعراض، وعمالتهم للأعداء، وقطعهم الطريق، وظلمهم، وسرقتهم، وإفسادهم..، فكان هذا الحديث عن جريمة إيواء المحدثين.
* معنى إيواء المُحْدِثين:
قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: “الحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السنة. والمحدث يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيا أو آواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه. والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه”.
* حكم إيواء المُحْدِثين:
إيواء المحدثين جريمة محرمة وكبيرة من كبائر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» رواه مسلم بهذا اللفظ، قال ابن بطال في شرح البخاري: “دل الحديث على أنه من آوى أهل المعاصي والبدع أنه شريك في الإثم..؛ لتقدم العلم بأن من رضي فعل قوم وعملهم أنه منهم، وإن كان بعيدًا عنهم”..
وإيواء المجرمين موالاة لهم وتعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وقال جل وعلا: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وقال سبحانه: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)..
وإذا كان من يشفع لمنع حد من حدود الله جل وعلا مرتكبا إثما عظيما فكيف بمن يمنع الحد بقوته أو حيلته!، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللهَ» رواه أبو داود.
وكلما كان الحدث أكبر كان إثم من يؤويه أكبر، فإثم من يؤوي ثلة من المجرمين المعتدين على عموم الأمة بشتى أنواع الظلم المستمرين في غيهم وطغيانهم أكبر وأشنع وأطغى من إثم من يؤوي شخصا مجرما ارتكب جرائم محدودة.
* أسباب إيواء المُحْدِثين:
من يحمون المجرمين ويدافعون عنهم يفعلون ذلك لأسباب عديدة؛ منها:
– العصبية الجاهلية.
– الحمية بالباطل.
– حب الفساد.
– الانتفاع من المجرم.
– بغض أصحاب الحقوق.
– الإعراض عن الحق والركون إلى الدنيا.
وكلما كان المدافع عن المجرم أقوى كان فساده أعظم وأطغى، قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: “وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه..، وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقاتل به المسلمين..، فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين بعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية؛ لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا..، لأنه امتنع من حق واجب عليه.. إِمَّا مُحَابَاة وحمية لذَلِك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض، وإما معاداة أو بغضا للمظلوم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وإما إعراضا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعله التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض..، وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم، لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا أو عجزا، وهذا على الإطلاق جاهلية محضة، وهي من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا..، ومن أذل نفسه لله فقد أعزها، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها، قال الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)”..
* صور إيواء المُحْدِثين:
لإيواء المحدثين صور عديدة؛ منها:
– حمايتهم والدفاع عنهم.
– والدخول معهم في حلف مناصرة ولو على الباطل.
– وإدخالهم في جوارهم ضد الحق الذي عليهم.
– والعمل في الأجهزة التي تحمي الطغاة وتدافع عنهم.
– وضمهم لصفوفهم ضما يمنع محاسبتهم.
– وإخفاؤهم عن أعين أصحاب الحق.
– وإتلاف أدلة إدانتهم.
* تحريف الطغاة لمبدأ حرمة إيواء المحدثين:
يستخدم الطغاة كعادتهم في التحريف مبدأ حرمة إيواء المحدثين كوسيلة للطغيان؛ بحيث يهاجمون الصالحين والمصلحين والمجاهدين، ويصف الطغاةُ الأتقياءَ بأنهم مُحْدِثون ومفسدون تحرم معاونتهم ونصرتهم وإيواؤهم.
وهذا الفعل من الطغاة باطل؛ فنصرة أهل الحق وحمايتهم واجبة، والوقوف ضد هؤلاء الطغاة ومنعهم من إفسادهم متعين.
ومن صور تحريف الطغاة كذلك أنهم قد يلاحقون من أذنب ذنبا خفيفا ليعاقبوه بغير شرع الله جل وعلا وبما لا تجيزه الشريعة وبما هو أشد من ذنبهم، فيكون عقابهم في حقيقته عدوانا وظلما على المذنب، فيشرع عند ذلك حماية المذنب من عقابهم الطغياني مع العمل على رد عدوان المذنب بالشرع الحنيف.
قال ابن تيمية في السياسة الشرعية: “لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل، فإنه لا يحل الإعلام به، لأنه من التعاون على الإثم والعدوان؛ بل يجب الدفع عنه، لأن نصر المظلوم واجب..، إن امتنع من الإخبار والإحضار، لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه، فهذا محسن. وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر، ويجتمع شبهة وشهوة. والواجب تمييز الحق من الباطل..، وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره. ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه؛ فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم؛ بل يكثف خبره من خصمه وغيره، فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن؛ إما من صلح أو حكم بالقسط، وإلا فبالقوة. وإن كان كل منهما ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم. وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي، أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلط وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم”.
* أسأل الله أن يكفينا شر المفسدين، وشر الذين زاد إفسادهم بإيواء غيرهم من المفسدين..، والحمد لله رب العالمين.