جريمةُ التَّطبيعِ مع المجرمين – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد الثامن والثلاثون ⁨ذو الحجة ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

الإجرام على دركاتٍ، وبعض المجرمين انحطَّ إلى أحطِّ دركات الإجرام، وإن كان يُعاب على المرء أن يرتبط بعلاقةٍ مع صغار المجرمين إلا أنه لا يُوصف بوصفهم، ولا يُدان بفعله هذا، إلا أن من يرتبط بعلاقةٍ مع مرتكبي أشنع وأبشع الجرائم، التي تستهدف الإنسان في دينه ونفسه وقيمه وماله وعرضه، بشكلٍ جماعيٍّ لا فردي، وبدوافعَ حقيرةٍ تدلُّ على نفسٍ أو أنفسٍ خبيثةٍ، وبإعلانٍ ومجاهرةٍ وفجورٍ، فإن هذا المتعلق بالمجرم، الذي يجعل التَّعايش والانسجام معه أمراً طبيعياً مجرمٌ مثله، وربما أكثر.

إن جعل العلاقة مع المجرم تصرفاً طبيعياً، يفضي إلى جعل الجريمة ذاتها على بشاعتها وضخامة أثرها تصرفاً طبيعياً، ممدوحاً ومشاداً به بالتدريج، بعد أن ألِفته نفس من جعله طبيعياً وتشرَّبت الاعتياد والاعتياش عليه، وهذا يعد مسوغاً للمجرم وحافزاً للاستمرار، ودليل سلامةِ طريقٍ، له ولغيره من المجرمين.

 

ولطالما كانت الجرائم التي تستهدف الشعوب أعظم خطراً وأبعد أثراً من غيرها من الجرائم العظيمة، ولطالما كان المنتمون إلى هذه الشعوب المستهينون بهذه الجرائم المطبِّعون مع مرتكبيها أحطَّ وأنذل من غيرهم، وإن لم يعينوا المجرم إعانةً ظاهرةً، فكيف إن أعانوه بأيِّ أنواع العون المادي والمعنوي؟!.

علي أن أطرح أمثلةً ماثلةً لأفتح الباب إلى ما أرمي إليه من واقعٍ وما فيه من مجرمين فاعلين ومجرمين مطبِّعين، والأمثلة كثيرةٌ أهمها الاستخراب الغربي بدوله وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي قتلت الملايين من المسلمين والعرب وغيرهم من الملل الأخرى، وإسرائيل التي احتلت فلسطين بما تعلمون من الجرائم الكثيرة، وإيران التي صدَّرت ثورتها الرافضية الحاقدة ضد الإسلام إلى البلدان العربية المجاورة ولو استطاعت لما قصرت في البعيدة، والأنظمة التي ولاها الاستخراب تعيث فساداً وإفساداً للشعوب، وفي مقدمتها النظام النصيري الذي ما توقف عن الإجرام لحظةً منذ استولى على السلطة في سوريا برضاً وتفويضٍ من النظام الدولي.

إن من كرم الأخلاق وسموها -إن لم نقل من الدين والتقوى- ألا يطبِّع المرء العلاقة مع مجرمٍ في حق غيره، فإن فعلها فربما يعتذر بعذر لا يبيح لكنه ربما يخفف حكم فعله، لكن أن يطبع مع من يرتكب الجرائم فيه وفي شعبه، فهذا لا عذر له يبيح أو يبرّر أو يخفّف، خاصة إن كانت الجرائم مستمرة لا تنتهي وليست قديمة فينساها أو يتناساها.

مؤخراً أعلنت حركة حماس الفلسطينية التي ترفض التطبيع مع المحتل الصهيوني أنها ستطبع العلاقة مع المحتل النصيري المجرم في سوريا، ولقد تسامح أهل سوريا المكلومون مع حماس في علاقتها مع داعمها الرافضيِّ الإيراني، رغم تمادي قادتها في تمجيد هؤلاء القتلة الحاقدين، اعتذر من يستحيي منهم بالحاجة المُلحَّة للمال والسلاح، لكن في عودة العلاقة مع النظام النصيري الساقط الفاقد لكل شيء، سقوطٌ وفقدانٌ لثقة وتأييد أبناء الأمة، نعم إن القوم يقدرون المصلحة بمقياسٍ مادي لا شرعي، وهذا هو السبب الحقيقي لسقوطهم إلى هذا الدرك السحيق.

قال “خليل الحية” رئيس مكتب العلاقات العربية والإسلامية في حركة حماس في مقابلة مع صحيفة الأخبار اللبنانية: “بخلاصة النقاشات التي شاركت فيها قيادات وكوادر ومؤثرون، وحتى المعتقلون داخل السجون، تم إقرار السعي من أجل استعادة العلاقة مع دمشق”… وأضاف: “لا بد أن يقوم حوار ينهي الخصومة بين الإسلاميين والقوميين والتي اندلعت في المرحلة الماضية، ويعيد حالة التوافق التي كانت قائمة بينهم قبل العشرية الماضية”… عذرٌ أقبحُ من ذنبٍ، حيث لم تفهم قيادة حركة حماس معادلة الصراع، أو ضيعت فهم ونهج القادة المؤسسين، هذه القيادة المصلحية التي تتخير من القوميين العرب ما يناسب القيادة في طهران، وعلى كل حال إن هذه العلاقة السقيمة بين الإسلاميين والقوميين لم تثمر إلا ذلاً وانكساراً بشعارات كاذبة على مر العقود الماضية.

اقرأ هذه الآية واعلم أن التطبيع المصلحي على شفا جرف الولاء، والولاء يكون بالتدريج، ومن الولاء أن يخلع قادة حماس على قاسم سليماني الذي نكل بالمسلمين لقب “شهيد القدس”، الآية: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الممتحنة : 9].

هل هناك أسوأ من هذا المثال، حيث اختارت حماس الفلسطينية التقرب إلى قاتل مئات الآلاف من السوريين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين؟

نعم، هناك من يسعى بخطواتٍ متتاليةٍ إلى التطبيع مع النظام المجرم والمحتلين، لكن من الفصائل السورية ذاتها، والمعارضة الخارجية التي دخلت دهاليز التفاوض والتسليم لا عتب عليها، لكن من رفع الشعارات الثورية والإسلامية، ولاحق وقتل المتعاملين مع النظام ولو كانوا من صغار الموظفين، وكفر وقاتل من تعامل أو جلس مع الدول الداعمة للثورة السورية، ثم تجده يفتح المعابر مع النظام المجرم، ويدخل البضائع الإيرانية إلى المحرر، وينخذل أمام الاتفاقيات الدولية التي تقضي بتسليم المناطق للنظام النصيري والمحتلين، والقائمة تطول.

قال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا “لافرنتييف” في تصريح أدلى به على هامش اجتماعات الجولة الثامنة عشر من محادثات أستانا: “حان الوقت لإيقاف آلية إيصال المساعدات عبر الحدود دون موافقة الحكومة السورية”، هذا بعد إدخال هيئة تحرير الشام لجزءٍ من المساعدات الأممية عبر معبرٍ على خطوط التماس قرب مدينة سراقب، الأمر الذي قوى حجة موسكو ومن تدعمهم دولياً، وجعل دخول المواد من مناطق النظام المجرم إلى المنطقة المحررة طبيعياً، حيث لم تخرج مظاهرةٌ واحدةٌ ضد هذه الخطوة ناهيك عن استهداف الشاحنات ولو بالحجارة، وهذا بسبب الحراسة الأمنية المصلحية من قبل هيئة تحرير الشام.

كتب عبد الرحيم عطون الشرعي لدى هيئة تحرير الشام منذ سنوات مقالاً سطحيَّ التفكير يبرر فيه “مصلحياً” فتح طريق حلب دمشق الدولي لعبور التجارة المحلية والدولية، هذا كان قبل أن يسيطر النظام النصيري والمحتلون عليه، حيث كان الحديث الروسي التركي وما يزال عن فتح الطرق الدولية، ومنها طريق حلب باب الهوى الذي نال عناية خاصة من هيئة تحرير الشام، وحضر زعيمها شخصياً افتتاحه بعد أعمال التوسعة والتعبيد.

كتبت وقتها انتقاداً لما قاله عطون، وحذرت من سلبيات وأخطار يتسبب بها فتح الطرقات الدولية لتمر القوافل التجارية الدولية الصديقة والمعادية من المنطقة، تربو على المصلحة الاقتصادية العمياء، وأهمها التأثير النفسي على سكان المنطقة الثورية المحررة، حيث سيصبح مرور تجارة وسيارات المجرمين ومصالحهم أمام الثائرين وأهل الشهداء والأسرى طبيعياً، مما يؤثر على الروح الثورية ككل، وإن ما حذرت منه وقع تدريجياً وبفعل وحماية من يدعي الثورية والجهادية، ألا تذكرون كيف مرت الدوريات الروسية وسط المنطقة المحررة ومنع حتى الإعلام الثوري من التعرض لها؟!.

وأخيراً، وبعد تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم، وقتال الفصائل الثائرة والمجاهدة، مما أضر بالثورة السورية وتسبب في إذعار العالم عليها، وتذرع الأعداء بمحاربة الإرهاب للقتل والتدمير واحتلال المناطق الواسعة، زار زعيم هيئة تحرير الشام جبل السماق (قرى درزية كانت أهلها أعلنوا إسلامهم) ليوصل رسالة بهذا الجزء من الآية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..}، وقوله: “مشكلتنا مع النظام وليس مع الطوائف”، معنى الرسالة المختصر هو المعنى العلماني الذي يروجه النظام ذاته (الدين لله والوطن للجميع)، لكن في الحقيقة الدين ما يسمحون به، والوطن للعصابة الطائفية الحاكمة، والطوائف الأخرى المتحالفة معها ضد أهل السنة الثائرين، نعم إنها خطوة تطبيعية كبيرة مغلفة بورقٍ شفافٍ يدَّعون أنه من السياسية الشرعية، يفضح منهج سقوطٍ لا نزولٍ أو تنازلٍ فقط.

ما كان ليتضح هذان الخطان لولا سيطرة هيئة تحرير الشام المطلقة على إدلب وسعيها للتمدد أيضاً!، خط المعارضة الخارجية المملوكة دولياً التي تمثل دور المفاوض للنظام المجرم، وينتظرون أمراً لإعلان التفاهم معه وإعلان إنهاء الثورة، وخط العمل على أرض الواقع الذي تقوم به بعض الفصائل الفاسدة بطريقةٍ عشوائيةٍ، وتقوم به هيئة تحرير الشام بطريقة علنيةٍ منظمةٍ وعلى خطواتٍ متتاليةٍ، تسارع في قمع من يعترض عليه، وتتهم من يتساءل، وتتذرع بالحرص على المنطقة “المزدهرة” والمؤسسات “المنتشرة” تحت سيطرتها، إن المسار الزمني للخطين سيجمعهما في نقطة اقتسامٍ للمكتسبات مع أقبح وجه إجرامي طائفي حاقد عرفه التاريخ، في ظل الرعاية الدولية المعادية للإسلام والمسلمين، المقدمة للمصلحة المادية حتى على القيم الإنسانية والفطرة السوية.

إن تذكر الأحداث بتسلسلها، والإفادة من الأدلة الواضحة لمعرفة الحال والمآل، نعمةٌ موجودةٌ مفقودةٌ، وإن الكثير من الناس لا يريدون النظر في العواقب، بل التمتع بوهم اللحظة أو الاعتذار بالعجز فيها، ولا يتفكرون في عظم وثقل أمانة الدين والأجيال القادمة، ولو أنهم فعلوا لوقفوا لكل خطوةٍ في الاتجاه الخطأ صغيرةٍ كانت أو كبيرةٍ، قبل اتساع الخرق، والطبع على القلوب، والتطبيع التام مع أولئك المجرمين.


لتحميل نسخة من مجلة بلاغ اضغط هنا 

لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ العدد 18 اضغط هنا 

Exit mobile version