الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
يقول الشيخ رفاعي سرور رحمه الله في كتابه “التصور السياسي للحركة الإسلامية”: «الحضارات السابقة حضارات مصنوعة جاء مضمون كل حضارة منها كرد فعل للحضارة التي تسبقها…، مثلما جاءت حضارة القوة المادية “الرومانية” كرد فعل لحضارة المثالية الخيالية “اليونانية”، وجاءت حضارة الحاكم الإله “الفارسية” كرد فعل للقوة المادية “الرومانية”، ومثلما جاءت حضارة الفرد والقومية “الأوربية” كرد فعل للتعصب الكاثوليكي “الكاثوليكية”، وهذا دليل على أنها حضارات لم تصنع على عين الله، ودليل آخر على ذلك هو أن النظرية السياسية لكل حضارة لم تتكون إلا بعد فترة زمنية طويلة وقطع أشواط تاريخية عبر حياة الأمة…، بل إن هناك أمماً لم تتكون نظريتها إلا في أواخر عمرها. الأمر الذي يختلف تماماً في حضارة الأمة الإسلامية التي تكونت نظريتها السياسية في حياة مؤسسها الأول».
وهذا يعني أن جدلية “قيم – مصالح ” وما نتج من صراع بين المذاهب الفلسفية السياسية والاجتماعية المثالي منها والواقعي (المادي) كان لها الدور الأكبر في صناعة الحضارات السابقة واللاحقة للحضارة الإسلامية التي صنعت على عين الله؛ فكانت مثالية واقعية تحقق سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، بخلاف الحضارات المصنوعة المثالية منها (الهند – الصين – اليونان – فارس) والواقعية (الرومانية القديمة والمعاصرة)، وفي مقالنا الحالي أركز بإذن الله على أثر جدلية “قيم – مصالح ” في بروز المذاهب السياسية المعاصرة، في ظل غياب الحضارة الإسلامية، كما أوضح أثر هذه المذاهب على توجهات وسياسات جماعات الإسلام السياسي؛ فأقول وبالله التوفيق:
أولا – المثالية السياسية:
1 – نشأت كمذهب سياسي معاصر بعد الحرب العالمية الأولى كرد فعل على آثارها الفظيعة.
2 – تعود جذورها الفلسفية والفكرية إلى أفلاطون، وأهم روادها المعاصرين إيمانويل كانط وريتشارد كوبدن وجون هوبسون ودرو ويلسون.
3 – تنطلق من توجه أخلاقي (غربي) وقانوني في معالجة القضايا الدولية وأزماتها من خلال:
– عصبة الأمم (الحكومة العالمية) التي تحل محل مفردات نظام توازن القوى والفوضوية عند النظرية الواقعية.
– الأدوات القانونية والسياسية؛ مثل: القضاء والتحكيم الدوليين، والوساطة، والمفاوضات.
-نزع السلاح.
4 – فشل المثاليون في إدراك أن الأسباب الرئيسية لسلوك الدولة الغربية تدور حـول اعتبارات القوة والمصلحة القومية بدلا من الأخلاق والنزعـة العالميـة، وشكل اندلاع الحرب العالمية الثانية العامل الأبرز في انهيارها لصالح الواقعية السياسية، ومن الجدير بالذكر أن انعكاسات هذه المثالية الغربية المزعومة كانت مدمرة على الشعوب الإسلامية والمستضعفة؛ حيث قنن الاحتلال والحملات الصليبية بما سمي قانون الانتداب، ومكن لليهود في أرض فلسطين، وقسم العالم الإسلامي، ونهبت ثرواته وخيراته.
ثانيا – الواقعية السياسية:
1 – تعود جذورها الفلسفية والفكرية إلى السفسطائيين اليونانيين الذين يرون في معظمهم أن القيم الأخلاقية مسألة نسبية تتغير بتغير الزمان والمكان، وقد رأى بعض المفكرين السفسطائيين وعلى رأسهم ثوكوديدس أن هناك قانونا طبيعيا لا يمنح الغلبة والسيطرة إلا للأقوياء ولذوي الكفاءة، وممن تأثر بتوجه السفسطائيين هذا مفكران محدثان هما:
– ميكافيللي: في القرن السادس عشر في كتابه “الأمير”، فالغاية عنده تبرر الوسيلة، والسياسة لا علاقة لها بالقيم المستمدة من الدين والأخلاق، بل يحددها منطق القوة والمصلحة.
– توماس هوبز: في القرن السابع عشر في كتابه “اللفياثان”؛ حيث يرى أن سلوكيات وصراعات الدول لا تحسمها إلا القوة، وأن القوانين العادلة هي التي تعبر عن مصالح الأقوياء، والملاحظ أن هوبز الذي عاش حروب إنكلترا الأهلية استقى معظم أفكاره من السفسطائي ثوكوديدس الذي عاش فترة الحرب بين المدن والدويلات الإغريقية.
2 – ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وتلاقحت مع الفلسفات المعاصرة كالماركسية والليبرالية الجديدة والبراغماتية.
3 – تعتمد الواقعية السياسية على جملة مفاهيم في مقارباتها لتعقيدات السياسة الدولية وأزماتها، ومن أبرز هذه المفاهيم: (الدولة. القوة. المصلحة. العقلانية. الفوضى الدولية. التقليل من دور المنظمات الدولية. هاجس الأمن والبقاء. الاعتماد على الذات) هذا ويمكن القول بأن منهاجي القوة والمصلحة هما أساس التحليل وصنع القرار في الواقعية السياسية.
4 – للواقعية السياسية أطوار وتراجعات نتج عنها عدة اتجاهات، وفق الآتي:
أ -الواقعية التقليدية:
– ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وتعاملت مع ما نجم عنها من واقع دولي وصراع جسدته حالة الحرب الباردة.
– أبرز مؤسسيها وروادها الأمريكيان هانز مورجانثو ورينهولد نيبور والبريطاني إدوارد هاليت كار، ويعتبر مورجانثو أبرز منظريها، وقد استمد أفكاره من هوبز وميكافيللي؛ حيث نشر عام 1948كتابه “السياسة بين الأمم” واعتبر فيه أن غاية المصلحة تحقيق القوة، وأن المصلحة المقترنة بالقوة تعتبر مفهوما حاكما في سياسات الدول في كل زمن، وأن الدول المتقاربة في المكانة تسلك نفس السلوك الخارجي رغم اختلاف ظروفها الداخلية، وتتوافق أطروحاته مع البراغماتية حيث المنفعة هي المعيار الرئيسي لكل قيمة، ويرى أن القطبية التعددية أفضل من التعددية الثنائية في تحقيق توازن القوى، ومن أبرز من تأثر به الدبلوماسي الأمريكي الشهير جوج كينان مهندس الحرب الباردة وصاحب سياسة الاحتواء، ووزير الخارجية هنري كيسنجر.
ب – الواقعية البنيوية: نشأت أواخر سبعينات القرن العشرين على يد الأمريكي كينيث والتز في كتابه “نظرية السياسات الدولية” والذي تناول فيه أبعاد جديدة لم تتناولها الواقعية التقليدية، معتبرا أن بنية النظام الدولي هي ما يشكل خيارات السياسة الخارجية للدول، وبأن طبيعة السياسة الدولية هي في صراع مستمر وقليل من التعاون، وبأن القطبية الثنائية أكثر استقرارا من القطبية التعددية، عكس مورجانثاو.
ج – الواقعية البنيوية الجديدة باتجاهيها الدفاعي والهجومي:
– ظهرتا مع بداية ثمانينات القرن العشرين.
– أضافتا تأثير البنية الداخلية على السياسة الخارجية، وافترقتا في قضية سلوك الدول هل هو مقتصر على البحث على الأمن فقط وهذا ما يتبناه الدفاعيون، أم تفرضه الطبيعة العدوانية الأمر الذي يستدعي تعظيم القوة المستمر كما يراه الهجوميون.
– من أبرز رواد البنيوية الجديدة الدفاعية روبرت جيرفيس وستيفن والت، ومن أبرز رواد البنيوية الجديدة الهجومية بيري بيوزن وجون ميرشماير في كتابه “مأساة سياسات القوة العظمى”.
د – الواقعية الكلاسيكية الجديدة:
– ظهرت في التسعينيات بعد انتهاء الحرب الباردة.
– أعطت دورا للبيئة الداخلية في تفسير السياسة الخارجية للدول، ومن روادها توماس كريستنسن (صاحب نظرية التعبئة الداخلية) ووليام وولفورث (نظرية الهيمنة) وفريد زكريا (الواقعية المتركزة في الدولة).
والملاحظ أن ما يجمع هذه التوجهات رغم اختلافها ثلاثة أسس هي: محورية الدولة (بدل التنظيمات الدولية في المثالية السياسية) ودافع البقاء والاعتماد على الذات، ومحركها الرئيس منهاج المصلحة ومنهاج القوة، وبالرغم من تراجعها بعد انتهاء الحرب الباردة والانتقاد الشديد لها من المدارس الأخرى كالسلوكية والليبرالية إلا أنها لاحقا عادت وتحديدا التقليدية منها لتفسر وتصنع السياسات الخارجية، وهذا ما يلاحظ في المقاربات تجاه الصين وروسيا وغيرها.
* ويتضح مما سبق ما ذكره الشيخ رفاعي رحمه الله من كون النظرية السياسية في الحضارة الغربية الإلحادية عرضة لردود الفعل والتراجعات المستمرة بحسب الوقائع والتغيرات؛ فالمثالية السياسية كانت ردة فعل على الحرب العاليمة الأولى كما ذكرنا، والواقعية السياسية ردة فعل على الحرب العالمية الثانية وتماشيا مع حالة الحرب الباردة السائدة بعدها، واتجاهاتها المختلفة ردات فعل لانهيار الاتحاد السوفيتي وغيره من التغيرات.
ثالثا – تأثر جماعات الإسلام السياسي بالواقعية السياسية:
1 – بداية لا بد من توضيح أن الواقعية السياسية بفلسفتها المادية وصبغتها البراغماتية تتناقض مع السياسة الشرعية المرتكزة على توحيد الله، وحاكمية الشريعة، وفقه الواقع، وتقوى الله، والهادفة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به، يقول ابن تيمية رحمه الله: “فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نَعِموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلا به من أمر دنياهم”.
ويقول أيضًا: “جميع الولايات في الإسلام مقصدها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا؛ فإنَّ الله تعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون” انتهى كلامه.
2 – إن المتأمل لمسيرة جماعات الإسلام الحركي عامة، وجماعات العمل السياسي خاصة؛ يجد أن الواقع الجبري وإفرازاته من ناحية، وطغيان الواقعية السياسية من ناحية ثانية، جعل بعضها يتماشى مع البراغماتية، لا بل ويقدمها ويتعامل بها -بنوع من التأولات الفاسدة المرتكزة على الفقه المقاصدي المنحرف والمصالح غير المعتبرة شرعا- على حساب السياسة الشرعية، ولذلك فإن قليلًا من التأمل في مواقف هذه الجماعات وسلوكها، يجعلك تدرك حجم التناقضات القائمة بين المبادئ والشعارات والدعاوى من ناحية، وبين المواقف والحقائق والوقائع من ناحية ثانية، والأزرى أن تتناقض مواقف هذه الجماعات من قضية واحدة لاعتبارات وظيفية تتعلق بالمصالح المتوهمة المتعلقة بالأوطان والأحلاف وغيرها.
– أخيرا: فإن الفرق واضح بين السياسة الشرعية المثالية الواقعية المستندة إلى حاكمية الله ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) وبين الواقعية السياسية المادية المستندة إلى عبادة الهوى ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)).
والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ BDF اضغط هنا