الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد؛
فأهل السنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، وإن الشيطان الذي قال الله على لسانه: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ملحاح بطيء اليأس يترصد المؤمن ويقعد له في طريق سيره، ناصًبا له الفخاخ والشراك، ومن ذلك ما نُقل عن بعض السلف: “ما أمر الله سبحانه بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلوّ. ولا يبالي بأيهما ظفر”.
وقد اقتطع كما يقول ابن القيم أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير، ووادي المجاوزة والتعدي، والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
ولعل ما سبق يفسر العلاقة الجدلية لثنائية الغلو والإرجاء بوصفهما مذهبين عقديين سياسيين قديمين، نتج الثاني كردة فعل على الأول، وكان لكليهما آثاره الكارثية على الأمة المسلمة قديما وحديثًا، وإذا كان الغلو بتجلياته الخارجية خاصة مهلك كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (رواه النسائي) فكذلك الإرجاء – الذي يترك الدين أرق من ثوب سابري (رقيق) كما يقول إبراهيم النخعي رحمه الله والذي يعتبر دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم وينقصون به من دينهم كما يقول النضر بن شميل – مهلك أيضًا، والحق المنجي وسط بينهما، يقول صلى الله عليه وسلم: (القصدَ القصدَ تبلغوا) والقصد هو الوسط بين الطرفين.
ويقول علي بن أبي طالب -رضِي الله عنه-: “إنَّ دين الله بين الغالي والمقصر، فعليكم بالنمرقة (الوسادة) الوسطى؛ فإنَّ بها يلحق المقصر، وإليها يرجع الغالي”.
يقول أبو سليمان الخطَّابي:
وَلا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَمْرِ وَاقْتَصِدْ
كِلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيمُ
هذا، وفي واقعنا المعاصر الذي أحكمت فيه المنظومة الدولية الجاهلية سيطرتها بعد سقوط الملك العثماني والحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاهما، استمرت وتكرست ظاهرة الإرجاء التي شكلت أحد العوامل الرئيسة في سقوط الممالك الإسلامية وتسلط المحتلين على العالم الإسلامي، خاصة بعد أن أجبرت يقظة الشعوب المسلمة وبعض نخبها الصادقة في غالب بلدان العالم الإسلامي القوى المحتلة على الانتقال من الحكم المباشر إلى تكتيك الحكم غير المباشر، والذي جرى عبر التقسيم واستعمال منظومات حكم عميلة تضمن استمرار السيطرة والتحكم ونهب الخيرات والثروات..
هذا وإن المتأمل لواقع ومسيرة جماعات الإسلام الحركي التي نشأت في الأصل بهدف تحرير العالم الإسلامي وتحكيم شرع الله في أرضه يجد الآتي:
1 – التأثر الكبير بثنائية الغلو والإرجاء بما أتاح للمنظومة الجاهلية وأدواتها الاستثمار في ذلك من خلال سياسات الاختراق والاحتواء والتوظيف.
2 – بروز النبتات الغالية الخارجية من ناحية والتراجعات الإرجائية من ناحية ثانية؛ لتكون ثمرة ذلك تضييعًا للتضحيات والجهود.
3 – بروز فتنة التكفير والتبديع المصلحي عبر تهم الغلو أو الإرجاء؛ وهذا ناتج عن طغيان العقلية الجبرية من ناحية، وتمكن الحزبية المقيتة في النفوس من ناحية ثانية، الأمر الذي جعل احتكار الحق والصواب والتناقض هو السائد، حيث الغلو مع الخصوم والإرجاء مع القيادات وحتى الكفار، ونفس مناطات التكفير وأسباب تبديع الخصوم تتحول إلى حق ورشد في حق الحزب.
4 – بروز جماعات ومواقف سنية استطاعت تجاوز ثنائية الغلو والإرجاء وفتنة التكفير والتبديع المصلحي.
* وفي ضوء ما سبق يتضح الآتي:
1 – ثنائية الغلو والإرجاء -بتجلياتهما العقدية والسياسية وآثارهما الكارثية على الأمة- فخ شيطاني غايته صرف المؤمن عن السنية الوسطية المنجية.
2 – تأثر جماعات الإسلام الحركي بثنائية الغلو والإرجاء بشكل كبير بما أتاح للأعداء الاستفادة من ذلك عبر سياسات الاختراق والاحتواء والتوظيف.
3 – بروز ظاهرة التكفير والتبديع المصلحي بتهم الغلو والإرجاء بسبب العقلية الجبرية والحزبية المقيتة.
4 – بروز جماعات ومواقف سنية استطاعت تجاوز ثنائية الغلو والإرجاء وفتنة التكفير والتبديع المصلحي.
5 – أهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، وإن الإصلاح النقدي والسلوكي الذي لا ينبني على رشد وتوازن في علاج تياري الغلو والإرجاء؛ مصيره تغذية أحدهما، يقول ابن القيم -رحمه الله-: “فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيرُ الناس النمط الأوسط، الذين ارتفَعُوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلوِّ المعتدين، وقد جعَل الله -سبحانه- هذه الأمَّة وسطًا؛ وهي الخيار العدل لتوسُّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنما تتطرَّق إلى الأطراف، والأوساط محميَّة بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها”.
والحمد لله رب العالمين.
د. أبو عبد الله الشامي