تمني المجاهد للشهادة – الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤١ – ربيع الأول ١٤٤٤ هـ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

غاية مبتغى المجاهد في سبيل الله عز وجل ومنتهى مناه أن يرزقه ربه الشهادة على ردب الجهاد طال الزمان به أو قصر، سالكًا درب الرجال كما وصفهم الله جل وعلا من الذين سبقوه من المؤمنين من إخوانه وأصحابه وسادته ونبيه المختار صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، حين اختاروا هذا الدرب فثبتوا عليه ولم يحيدوا عنه أو يغيروا أو يبدلوا، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)..

فالغاية الأسمى والهدف الأنبل للمجاهد في سبيل الله عز وجل تمني الشهادة وطلبها على الصعيد الشخصي، بينما النصر والظفر يكون على صعيد الأمة قاطبة..

* فضل تمني الشهادة:

– إن تمني الشهادة من أنبل صفات المؤمنين ومن خير معاش الناس لهم، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ، يَبْتَغِي الْقَتْلَ وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ» أي: لا يدع صيحة حرب أو نداء استغاثة أو موقف نصرة إلا هرع ليلبيه، صدقًا منه في تمني الشهادة في مواطنها التي ترجى أن تكون فيها فينالها..

– وتمني الشهادة هو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ» متفق عليه، فهو صلى الله عليه وسلم خير الفرسان وأشجع الشجعان، قرن القول بالعمل فكان يتقدم الصفوف محرضًا بلسانه مقاتلًا بسنانه، يتقي به المسلمون شدة البأس حين اشتداد النزال وتخلخل الصفوف، يقول الصحابي الجليل الهُمام عليٌ رضي الله عنه: «لَمَّا حَضَرَ الْبَأْسُ يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَقْرَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ» رواه أحمد.

وقد خاض بنفسه صلى الله عليه وسلم سبعًا وعشرين غزوة في سبيل الله عز وجل، لم يمنعه أصحابه أو مكانته أو منصبه وهو القائد الأول والأعلى للمسلمين وهم في طور نشأتهم وتكونهم من اقتحام الصعاب وخوض المعامع، ومن أبرز صور شجاعته الكبرى صلى الله عليه وسلم ما حصل في أشد موقفين في أصعب معركتين مرتا على المسلمين يوم غزوتي أحد وحنين في أماكن الأخطار وعند اشتداد المحن، حيث تراجع المسلمون وتخلخلت الصفوف وبلغت القلوب الحناجر، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ» متفق عليه، فيلتف حوله المسلمون ويعودوا لرص صفوفهم، وهكذا يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن الشجاعة والإقدام وتقدم صفوف النزال هو الاقتداء الصحيح به لمن أراد أن يكون قائدًا حقيقيًا يحرك الجموع ويجهز الصفوف ويجاهد الأعداء.

– وتمني الشهادة سبب لدخول الجنة ولو مات الشخص على الفراش، فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ».

وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه، يقول وهو على فراش الموت: «لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي كما يموت العَيْر، فلا نامت أعين الجبناء» “أسد الغابة في معرفة الصحابة”.

* آداب تمني الشهادة:

– الصدق في طلب الشهادة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» فيه تأكيد على اشتراط الصدق في طلب الشهادة لينال المرء أجرها، وللصدق علامات منها الإخلاص لله، والاستجابة لنداء الجهاد الواجب، وبذل الوسع فيه.

– لا يكون تمني الشهادة خوفًا أو هربًا من مواجهة طبيعة الحياة الدنيا ومتاعبها ومشاقها وابتلاءاتها، فهذا قضاء الله وقدره الواجب تحمله والصبر عليه، كما في حديث صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.

* من جميل مواقف الصادقين في تمني الشهادة:

– عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتولى خلافة المسلمين ورعاية شؤونهم في المدينة النبوية، وقد انتقلت المعارك إلى بلاد فارس وأرض إفريقيا، وبعد زمن مديد من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ولى زمن الشباب، فيقول: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» رواه البخاري، فينال مناه وتأتيه الشهادة في المدينة النبوية المباركة.

 

– رجلٌ من الأعراب أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من القسمة، فقال الرجل: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ، بِسَهْمٍ، فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ»، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ»، ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ» رواه النسائي.

– وممن ظهر صدقهم في تمني الشهادة، خال المؤمنين: عبد الله بن جحش رضي الله عنه، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ، قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا تَأْتِي نَدْعُو اللهَ، فَخَلَوْا فِي نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعْدٌ فَقَالَ: يَا رَبِّ إِذَا لَقِينَا الْقَوْمَ غَدًا، فَلَقِّنِي رَجُلًا شَدِيدًا بَأْسُهُ شَدِيدًا حَرْدُهُ، فَأُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنِي، ثُمَّ ارْزُقْنِي عَلَيْهِ الظَّفَرَ حَتَّى أَقْتُلَهُ، وَآخُذَ سَلَبَهُ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي غَدًا رَجُلًا شَدِيدًا حَرْدُهُ، شَدِيدًا بَأْسُهُ، أُقَاتِلُهُ فِيكَ وَيُقَاتِلُنَي، ثُمَّ يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ فِيمَ جُدِعَ أَنْفُكَ وَأُذُنُكَ؟ فَأَقُولُ: فِيكَ وَفِي رَسُولِكَ، فَيَقُولُ: صَدَقْتَ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يَا بُنَيَّ كَانَتْ دَعْوَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ خَيْرًا مِنْ دَعْوَتِي، لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِنَّ أُذُنَهُ وَأَنْفَهُ لَمُعَلَّقَانِ فِي خَيْطٍ» رواه الحاكم.

– ويوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فقال عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.

* اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك ترضى بها عنا، مقبلين غير مدبرين، صادقين غير مرائين، واجعلها خالصة لوجهك يا رب العالمين، اللهم أغننا بثيابنا عن الأكفان وبدمائنا عن الغسل وبالشهادة عن صلاة الجنازة وبرحمتك عن رحمة من سواك.

والحمد لله رب العالمين. 

Exit mobile version