تقارب شيوخ الساحة رغم المخاوف الحركية

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن أهل العلم هم ورثة الأنبياء الذين يعرفون الله جل وعلا حق المعرفة ويخشونه حق الخشية ويشهدون له سبحانه بالوحدانية أتم شهادة؛ لذا رفع الله درجتهم وأعلى مقامهم وتتابع الدعاء لهم؛ فالله جل وعلا وملائكته الأخيار وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليُصلُّون على معلم الناس الخير.

وأهل العلم جمعهم توحيد الله تعالى والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم والالتزام بشريعة الإسلام، وجمعهم تعلم القرآن والسنة وتعليمهما؛ فازدادت أواصر الصلة بينهم حتى قال الناس: “العلم رحِم بين أهله”. لذا فالأصل أن أهل العلم فيما بينهم هم أكثر الطوائف تماسكا وتشاورا وتراحما وصلة وألفة ومحبة وأخوة وإقالة لعثرات بعضهم البعض..

– ومن قدر الله تعالى أن جعل وقوع الاختلاف من سننه سبحانه وتعالى في كونه، سواء في ذلك الاختلاف الكلي الذي يُفرق الأمم الضالة عن أمة الإسلام، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، والاختلاف الجزئي داخل الأمة الواحدة.

والعلماء هم أقدر الناس على معرفة أسباب الخلاف وأنواعه وآثاره وسبل التعامل معه، فهم الذين دوما يرددون قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، وقوله جل وعلا: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، وقوله سبحانه: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ)، وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)، وقوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُوا)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)، وقوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وقوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقوله تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وقوله تعالى: (فَتَبَيَّنُوا)، وقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، وقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وقوله تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، وقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، وقوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)..، إلى غير ذلك من تعاليم شرعية توضح سبل التعامل مع أنواع الاختلاف.

ولا يكاد يخلو كتاب عقيدة أو تفسير أو حديث أو فقه أو آداب من ذكر كلام عن الاعتصام بحبل الله تعالى والنهي عن التفرق، كما كثر كذلك كلام العلماء عن الخلاف السائغ وأعذار العلماء فيه وأنه إذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر..

* وقد ظهرت في الساحة الجهادية الشامية أمثلة عديدة من الخلاف بين طلاب العلم أشهرها ما كان في مسائل النوازل المتعلقة بالساحة، ولكن هناك أمرا مهما يصاحب هذا التنوع في الرؤى وهو أن الخلاف يشتد عادة ويحتد لا لعين المسألة المتعلق بها ولكن للآثار المتوقعة والمآلات والمخاوف المترتبة على سير المخالف حركيا.. 

– بمعنى أن الخلاف ليس مجرد خلاف:

بين فاضل ومفضول..

ولا بين راجح ومرجوح..

ولا بين صواب وخطأ..

ولا بين ظالم ومظلوم..

بل هو خلاف ينظر كل طرف له على أنه خلاف يدور حول حفظ تضحيات ملايين الشهداء والجرحى والمشردين أو تضييعها..

– فطرف يعمل جاهدا على تغيير مسار طرف آخر؛ لأن عمل الطرف الآخر سيؤدي في غالب نظره لعودةِ تَسَلط العدو الغاشم على رقاب الشعب الثائر على غرار ما جرى في حمص والغوطة ودرعا..

– وطرف يعمل جاهدا على تغيير مسار طرف آخر؛ لأن عمل الطرف الآخر سيؤدي في غالب نظره لمحرقة تنهي كل شيء على غرار ما جرى في شرق السكة وكفر نبودة وخان شيخون…

وهذا لُبُّ جل الإشكال في الساحة وجوهر الخلاف الحاصل..، وإن ظهر بصورة خلاف على واقعة أو حادثة أو مسألة أو قضية.

وهذا الخلاف الحركي وإن كان موجودا في شتى البلدان، ولكن لكثرة الثغور الفارغة في البلاد الأخرى واستبعاد تمكن الجماعات الحركية من إحداث تغيير كبير على المدى القصير بتلك البلدان، فالخلاف هناك عادة يكون أقل حدة مما هو في الساحة الشامية.

* وأمام هذه المعضلة فلعل مما يساهم في تقارب شيوخ الساحة رغم المخاوف الحركية المتبادلة ما يلي:

1- معرفة أن الخلاف الحركي متفرع عن خلاف داخل الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي عمره مائة عام، فالأصل فيه وإن اختلف العمل أو احتد التنافس أو اشتد الصراع أن تبقى المحبة الصادقة للمخالف في الاجتهاد الحركي الداخل ضمن دائرة أهل السنة والجماعة، فكلهم يبتغي رضا الرحمن وأحدهم له أجران والآخر له أجر، وهذا أصل من أصول الإعذار عند أهل السنة المخالفة لطريق الغلاة، قال ابن تيمية في رفع الملام: “فعل هذه الأمور ممن يحسب أنها مباحة باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك، غايته أن يكون نوعا من أنواع الصديقين الذين امتنع لحوق الوعيد بهم لمانع، كما امتنع لحوق الوعيد به لتوبة أو حسنات ماحية، أو غير ذلك. واعلم أن هذه السبيل هي التي يجب سلوكها، فإن ما سواها طريقان خبيثان: أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص، وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم، وفساده معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وأدلته معلومة في غير هذا الموضع. الثاني: ترك القول والعمل بموجب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيمن خالفها، وهذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين”.

2- تفعيل سبل التواصل بين شيوخ الساحة وإن تعددت مشاربهم؛ للمدارسات والمشاورات والحوارات، وإقامة التجمعات العلمية والمؤتمرات والمنتديات والزيارات التي تهدف لذلك، فلن يضير المرء شيئا إن استمع لما عند أخيه، ولن ينقص قدره إن طلب رأيه ولو لم يعمل به، وقد أمر الله جل وعلا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه وأمره كذلك بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فوجب التأسي بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فمقام خير شيوخ الساحة أقل من مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمفاوز ومقام أبعد شيوخ الساحة أعلى من دركات أهل الكتاب بمراحل.

3- قيام أهل العلم بدورهم الشرعي الحركي، وعدم إنابة غيرهم فيه؛ فمن أهم أسباب الخلاف توسيد الأمور لغير أهلها، ومن ذلك انشغال كثير من المشايخ بالأحكام العامة دون تنزيل الفتاوى على الوقائع، فيقوم الجهال بتنزيل الفتاوى على الوقائع فيحدث الخلل والخلط الكثير، مع أن الفتوى أخص وأدق من الحكم العام، والقضاء أخص وأدق من الفتوى، وكما أن تنقيح المناط من مهام أهل العلم فكذلك تحقيق المناط من مهامهم. قال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: “الناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يُحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسنة، وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، والمثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع، وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه، فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروري في كل شريعة”.

ومن مهام أهل العلم كذلك عدم قبول تلاعب بعض أمراء الفصائل؛ حيث يتصدر بعض هؤلاء الأمراء الجهال أو الفساق لأمور لا يجوز الكلام فيها ولا الترجيح إلا بعلم شرعي فيتخيرون بأهوائهم ما يروق لهم بزعم وجود خلاف بين المشائخ يختارون من بينه، وهذا حكم بالجهل والهوى، قال الشاطبي في الموافقات: “ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف؛ كما إذا اختلف المجتهدون على قولين..؛ فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه..، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى.. ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع. وأيضا؛ فإن في مسائل الخلاف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع الهوى جملة، وهو قوله تعالى:( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول..، وأيضا؛ فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل..، القصد من نصب الحكام رفع التشاجر والخصام على وجه لا يلحق فيه أحد الخصمين ضرر، مع عدم تطرق التهمة للحاكم، وهذا النوع من التخيير في الأقوال مضاد لهذا كله”.

4- إظهار رموز ومرجعيات لكل تيار حركي ينوبون عمن خلفهم ويوجهونهم لآلية التعامل مع كل خلاف حركي على حدة؛ بحيث كلما تقارب هؤلاء الرموز أمكن حصر أوجه الخلاف والعمل على تقليلها قدر الإمكان؛ فاجتماع مشايخ تيار واحد أولى من تفرقهم، وانتظام أمرهم ورؤيتهم فيه انتظام مَن خلفهم.

5- الاتفاق على وسائل لضبط الخلاف أو تقليل آثاره؛ مثل التحاكم لمن يختارونه من أهل العلم، ومثل تقسيم ميادين العمل ومناطقه، ومثل الاشتراك في أعمال وثغور متفق على عجز كل واحد عن القيام بها…، ولن يعدم الصادقون وسائل وأساليب تجمع وتقرب طالما أرادوا الإصلاح إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا.

6- ربط درجة الإنكار في مسائل الخلاف الحركية بالأمل في تغيير مسار الواقع الخاطئ، بمعنى أنه إن ترجح عند شيخ أن إنكاره الكبير يؤثر في منع الانزلاق إلى الهاوية التي يخشاها من مسار المخالف استخدم درجة كبيرة من الإنكار، وإن ترجح عند شيخ أن إنكاره لن يؤثر ولن يمنع الانزلاق الذي يخشاه استخدم درجة أقل من الإنكار، قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)، وهذا الربط خشية ألا يكون الإنكار مجديا وخوفا من أن يكون مُضرا يستغله الأعداء لتحقيق مآربهم.

7- الاعتدال في تقدير المآلات والمخاوف، والتفرقة بين القطعي والظني، وكذلك بين المآل القريب والمآل البعيد، وإعادة دراسة الواقع في كل مرحلة لمعرفة مقدار الثبات والتغير الذي طرأ عليه وأثر ذلك على وسائل طرح ومناقشة وإثارة مسائل الخلاف.

* وختاما: فهذه إشارات سريعة، رجوت أن تعين شيوخ الساحة الأفاضل على مزيد بحث وتأمل، سائلا المولى جل وعلا أن يصلح الحال وأن يجمع الصف وأن يعجل بنصر المجاهدين وهزيمة أعداء الله الكافرين، والحمد لله رب العالمين.

مقالات العدد الثاني عشر من مجلة بلاغ

Exit mobile version