تحديث النفس بالغزو – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٤

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

تحديث النفس بالغزو: هو عقد النية في القلب ابتداء للخروج والجهاد في سبيل الله، ومباشرة الكفار بالقتال والغزو.

* فضل تحديث النفس بالغزو:

– عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ»، إنهم أناس تحدثهم أنفسهم بالغزو والجهاد حتى أحبوه -رغم المشقة- حبا يفوق متاع الدنيا، قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: «مَا مِنْ لَيْلَةٍ يُهْدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ أَنَا لَهَا مُحِبٌّ، أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ، أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ كَثِيرَةِ الْجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ أُصَبِّحُ فِيهَا الْعَدُوَّ»..

– وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» رواه مسلم، فربما مات مسلم مجاهد على فراشه بعد عقود من الغزو والجهاد والرباط، وربما مات مسلم لم تغبر قدماه يومًا في سبيل الله؛ إلا أنه كان صادقًا في دعواه وحديثه لنفسه بوجوب الجهاد فاستجاب الله له بصدق نيته ودعائه وحديثه لنفسه بالغزو فرزقه الشهادة.

وقد تمنى موسى عليه السلام الغزو، وحدث به نفسه، وأمر به قومه، وطلب من ربه عند موته أن يدفن قرب الأرض المقدسة “بلاد الشام”، «فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ».

قال الشاعر:

فيا ربِّ إنْ حانَتْ وفاتي فلاَ تكَنْ

على شرجعٍ يُعلَى بدكنِ المطارفِ

وَلَكِنْ أَحِنْ يَوْمِي شَهِيداً وَعُقْبَةً

يُصَابُونَ في فَجٍّ مِنَ الأرْضِ خَائِفِ

عَصَائِبُ مِنْ شَتَّى، يُؤَلِّفُ بَيْنَهُمْ

هُدَى اللهِ، نَزّالُونَ عِنْدَ المَوَاقِفِ

إِذَا فَارَقُوا دُنْيَاهُمُ فَارَقُوا الأذَى

وصارُوا إلى موعودِ مَا في المصاحفِ

ويُصْبِح قَبْرِي بَطْن نَسْرٍ مَقِيلُهُ

بِجَوِّ السَّمَاءِ في نُسُورٍ عَوَائِفِ

– وتحديث النفس بالغزو سبب للتنعم بالجنة في الدنيا قبل الآخرة؛ فقد غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن غزوة بدر، فأقسم بالله، وقال: «يَا رَسُولَ اللهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»، وهذا القسم «لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ»، حققه يوم أحد حين «اسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ، قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)»، فشعار الذي يحدث نفسه بالغزو: «لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ».

 

– عن جابر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فقال: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ».

 

– تحديث النفس بالغزو سبب للعمل والصبر والبذل ورفع الهمة، قال تعالى: ((وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)) يقول السعدي رحمه الله: “ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله، فقال: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم، قال الله تعالى لهم: (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي: رأيتم ما تمنيتم بأعينكم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن، خصوصا لمن تمنى ذلك، وحصل له ما تمنى، فإن الواجب عليه بذل الجهد، واستفراغ الوسع في ذلك. وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة، ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم، ولم ينكر عليهم، وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها، والله أعلم”.

* ولحديث النفس بالغزو آداب وشروط؛ ومنها:

أولًا – الإخلاص: إخلاص النية مما يدخل عليها ليفسدها من الشهوات أو الشبهات، فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».

ثانيًا – الصدق: قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [سورة البقرة: 246]، جاء في التفسير الميسر: “ألم تعلم -أيها الرسول- قصة الأشراف والوجهاء من بني إسرائيل من بعد زمان موسى؛ حين طلبوا من نبيهم أن يولي عليهم ملكا، يجتمعون تحت قيادته، ويقاتلون أعداءهم في سبيل الله. قال لهم نبيهم: هل الأمر كما أتوقعه إنْ فُرِض عليكم القتال في سبيل الله أنكم لا تقاتلون؛ فإني أتوقع جبنكم وفراركم من القتال، قالوا مستنكرين توقع نبيهم: وأي مانع يمنعنا عن القتال في سبيل الله، وقد أَخْرَجَنَا عدوُّنا من ديارنا، وأبعدنا عن أولادنا بالقتل والأسر؟ فلما فرض الله عليهم القتال مع الملِك الذي عيَّنه لهم جَبُنوا وفرُّوا عن القتال، إلا قليلا منهم ثبتوا بفضل الله، والله عليم بالظالمين الناكثين عهودهم”.

ثالثًا – الإعداد: ويشمل الجانب الإيماني والعسكري والبدني، قال تعالى: ‏(( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ))‏، جاء في تفسير السعدي رحمه الله: “يقول تعالى مبينا أن المتخلفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبين أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة، فإن العذر هو المانع الذي يمنع إذا بذل العبد وسعه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يعذر‏.‏‏ (وَ)‏ أما هؤلاء المنافقون فـ ‏(لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)‏ أي‏:‏ لاستعدوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يعدوا له عدة، علم أنهم ما أرادوا الخروج‏. (وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ)‏ معكم في الخروج للغزو (فَثَبَّطَهُمْ‏) قدرا وقضاء، وإن كان قد أمرهم وحثهم على الخروج، وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمته ما أراد إعانتهم، بل خذلهم وثبطهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)‏ من النساء والمعذورين‏”.‏

وقال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)).

رابعًا – الصبر: لأن تحديث النفس بالغزو دون مباشرة القتال والرباط ومجالدة الأعداء قد يعقبه في النفوس مع طول الأيام ضعف أو كسل أو خمول؛ لذا لا بد من الصبر عليه، قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

خامسا – التوكل على الله وعدم الاتكال على النفس: فهو يحدث نفسه بالغزو استجابة لأمر الله تعالى ودفاعا عن المستضعفين لا حبا للفتوة والعلو الدنيوي، قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ»، قال النووي في شرح مسلم: “نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي..، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا يخالف الاحتياط والحزم”، وفي هذا الحديث رجاء أن ينصر الله المسلمين بجند خفي من عنده، قال ابن بطال في شرح البخاري: “معنى هذا الحديث والله أعلم مفهوم من قوله: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» فهو يستبشر بما نصره الله به من الرياح، ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور كما أهلك عادًا، وإذا أهلك عدوه بالدبور فقد نصر بها”.

* اللهم لا تحرمنا لذة الجهاد في سبيلك، ومراغمة أعدائك، والدفاع عن دينك ومقدساتك، وارزقنا الشهادة في سبيلك وأنت راضٍ عنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٤٤ جمادى الآخرة ١٤٤٤هـ 

Exit mobile version