تبديل النعم يوجب العقوبة مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ

الشيخ: محمد سمير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛

قال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، هذه السنة عامة وإن كانت في سياق الحديث عن بني إسرائيل إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال القرطبي: “لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل” [تفسير القرطبي 3/28].

وقال أبو حيان: “ولفظ: من يبدل، عام وهو شرط، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمة” [البحر المحيط 2/351].

فهذه الآية تقرر أن من بدل نعم الله ولم يرعها ولم يحفظها وأهمل توظيفها في نصرة الدين وأهله، أو استخدمها في معصية الله والصد عن سبيله فهو مستحقٌ للعقاب فإنه تبارك وتعالى شديد العقاب، فواجب الإنسان عند حدوث النعمة أن يقوم بشكرها فبذلك تدوم وإلا كانت سريعة الزوال، قال السمرقندي: “إذا لم يشكروا نعمة الله، تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة” [بحر العلوم 1/ 139].

ولفظ “نعمة الله” مضاف إلى معرفة فهو يفيد العموم أي يشمل جميع نعم الله الظاهرة والباطنة التي يسبغها على عباده، قال أبو زهرة: “نعمة الله هنا عامة تشمل نعمه الظاهرة والباطنة؛ فتشمل نعمة الصحة، ونعمة المال، ونعمة الجاه، كما تشمل نعمة العقل، ونعمة الهداية بإرسال الرسل وإقامة الأدلة على رسالتهم؛ ومن يبدل هذه النعم السابغة فيجعلها حجة عليه تؤدي إلى العقاب، فلا يبذل جهده في مرضاة الله، بل في معصيته، ولا يبذل ماله في النفع بل في الضرر، ولا يبذل جاهه لإعانة الضعيف، بل لحيف الشريف؛ ولا يعمل عقله ليصل إلى الحق؛ بل ليضل نفسه؛ ولا يقبل الهداية بل يردها؛ ومن يبدل نعمة الله ذلك التبديل، فإنه سبحانه وتعالى سيعاقبه لَا محالة” [زهرة التفاسير 2/211].

ولا شك أن التمكين في الأرض ــ ولو جزئيًا ــ من أجلّ النعم والواجب على الفئة أو الجماعة التي مكنها الله أن تقوم بما أمر الله به من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ربنا: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].

 

فأما إذا كانت الفئة أو التنظيم تزعم في حال استضعافها أنها ستقوم بأمر الله وستحكم شرعه وتقف عند حدوده ولن تداهن في ذلك أحدًا ثم إذا حصل لها التمكين الجزئي أعرضت عن ذلك كله أو بعضه وخالفت أفعالها أقوالها وغيّرت وبدلت نعم الله وأخذت تسعى لإرضاء المجتمع الدولي ومؤسساته وتحاول التقرب منهم وتستخدم في تسويغ ذلك الشبه نفسها التي كانت تنكرها بالأمس وترد عليها وتبين زيفها وضعفها فاعلم أن عقوبة الله قريبةٌ منها ولا يظلم ربك أحدًا.

قال الشيخ أبو قتادة الفلسطيني: “فهذه دولة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تعيش في عزلةٍ في عالم الحجاز (عن أي وضع خارج الجزيرة العربية)، والمسلمون الجاهلون اليوم من قادة الفكر والرأي -زعموا- لا يرون قيمةً لأي سلطان للمسلمين حتى يكون لهذا السلطان قبولٌ من تشريعات الكافرين، وجهل هؤلاء بدين الله وسنن التاريخ ووقائع الحياة وفقه القرآن هو ما يجعلهم في حالة تنازلٍ دائمٍ للجاهلية حتى ترضى عنهم وتقبل بهم في داخل أحشائها وقوانينها، وهذا سببٌ رئيسٌ من أسباب الخذلان وفوات النصر وضياع الفرص، فإن عدم شكر الله مبعثه أن المرء لا يدري نعم الله عليه، وهؤلاء يعطيهم الله النصر في أماكن ومواطن فلا يرونها لعدم إقرار الجاهلية بها، فلا يشكرون الله عليها ولا يقومون بما يجب من حق الله عليهم وحق الأمة كذلك، فتفوت عليهم الفرص، والحق أن المسلمين قد حصل لهم الكثير من النصر والتمكين، بل قد جاءهم في مواطن عدة لكنهم أنكروا نعمة الله لاحتقارها، فلم يشكروها ولم يحافظوا عليها فذهبت لغيرهم، وهذه سنة الله تعالى في الجاهلين والغافلين، وعمدة جهلهم أنهم يطلبون من أعدائهم الإقرار بهم والقبول لهم” [مع صبغة الله الصمد ص107].

فعلى المرء أن يتذكر جيدًا ما قطعه لربه على نفسه من العهود والمواثيق إن أعطي النعم ونجا من الشدائد والكروب ثم يفي بها كاملةً غير منقوصةٍ وليحذر من التلاعب والتحايل فإن الله تبارك وتعالى لا يُخدع، ونعم الله تبارك وتعالى لا تُستدام بغير طاعته.

وصاحب الشهوة والهوى يظن أنه يمكن استدامة النعمة بالمعصية فيسارع في ذلك ويلوي أعناق النصوص الشرعية ليصحح باطله، فتجري عليه سنة الله وإذ بالنعمة التي زين له الشيطان المعصية لأجلها قد سلبت منه، وإذ بالعقوبات التي القدرية تتوالى عليه فلا الدين حفظ ولا النعمة استبقى.

قال الطبري: “ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه” [تفسير الطبري 4/211].

قال سعيد حوى: “يدخل في تبديل نعمة الله: أن نستبدل بقانونٍ إسلاميٍّ قانونًا غير إسلاميّ، وبدستور الإسلام دستورًا غير إسلاميّ، وبنظام الله نظام البشر، وبالأخلاق الإسلامية الأخلاق الجاهلية، وبمفاهيم الإسلام مفاهيم الجاهلية” [الأساس في التفسير 1/493].

والعقوبة التي توعد الله بها من بدل نعمته قد تكون ماديةً فتأتيه المصائب عقوبةً له على ذلك فيُبتلى في نفسه أو ماله أو ولده أو ملكه، وقد تكون معنويةً ــ وهي أشدهما ــ فيضرب قلبه بأنواع الأمراض، وأخطرُها النفاق كما قال ربنا: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77-75].

والحاصل: أن الطريق واضحٌ واحدٌ وهو الاستقامة على أمر الله والقيام بحق نعمه والحذر من تبديلها وإلا كانت العقوبة التي لا راد لها ولا ومفر منها.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ

لتحميل نسختك من مجلة بلاغ  اضغط هنا  أو قم بزيارة قناتنا على تطبيق التليجرام بالضغط هنا 

Exit mobile version