الأستاذ: حسين أبو عمر
قُبيل انطلاق الهجوم الروسي على أوكرانيا كان الكثير من الخبراء والمحللين السياسيين يستبعدون غزوًا روسيًا لأوكرانيا، وكانوا يشككون في التسريبات الأمريكية عن مخططات بوتين لغزو أوكرانيا، بل إن بعض الخبراء الألمان كان يتهم الأمريكيين بنشر معلومات مضللة من أجل فرض عقوبات على روسيا، وشبَّه الأمر بما حصل من تضليل (أمريكي – بريطاني) للعالم حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل إبان غزو العراق في 2003، كما كانوا يتوقعون أن الغاية من التصعيد الروسي هو الوصول إلى مفاوضات جادة مع الغرب حول المصالح الأمنية الروسية؛ جابريلا كرون شمالتس، الصحفية والخبيرة الألمانية في الشأن الروسي، والتي كانت تثني كثيرًا على بوتين وتقول عنه إنه فرصة كبيرة أضاعها الغرب، قالت في مقالة في صحيفة برلين في 27 \ 2 \ 2022: «كنت مقتنعةً تمامًا بأن تصاعد هذا التهديد الروسي الضخم في الأسابيع والأشهر الأخيرة، مهما كان محفوفًا بالمخاطر أو مفرطًا، كان يخدم غرضًا وحيدًا: وهو فرض مفاوضات جادة مع الغرب من أجل الوصول في النهاية إلى تحقيق المصالح الأمنية الروسية».
كذلك الدبلوماسي والسياسي الألماني، الرئيس الأسبق للأكاديمية الألمانية للسياسة الأمنية، البروفيسور هانس ديتر هويمان، كان قد قال في جوابه على سؤال إذا ما كانت الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية لاجتياح أوكرانيا فعلًا أم هي وسيلة ضغط من أجل الحصول على ضمان عدم توسع الناتو شرقًا وتحقيق مكاسب أخرى، على قناة فونيكس الألمانية، إنه يعتقد أنها: «ممارسة ضغط من أجل التفاوض على الأشياء التي يمكن التفاوض عليها».
* فما الذي جعل بوتين يقدم على غزو أوكرانيا ويخيب ظن الكثير من الخبراء والباحثين:
– أهو الحنين إلى الماضي؟
– أم الشعور بعدم الأمن وضرورات الأمن القومي؟
– أم دوافع الجيوبولتيك ومد النفوذ؟
– أم غطرسة القوة؟
– أم الأمر مزيج من ذلك كله؟
في البداية، لابد من الإشارة إلى أن بعض الخبراء استشرفوا، قبل أكثر من عقد من الزمان، أن تسعى روسيا لضم أوكرانيا؛ زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، قال في كتابه “رؤية استراتيجية”: «قيام روسيا بإذابة بيلاروسيا في بوتقتها، دون قدر كبير من التكاليف أو الألم، سيفضي إلى تعريض مستقبل أوكرانيا بوصفها دولة ذات سيادة للخطر الفعلي…
تبقى أوكرانيا دولة أوروبية مهمة ذات كتلة سكانية مؤلفة من نحو 45 مليونا، مع قاعدة صناعية قوية وزراعة مرشحة لأن تكون ذات إنتاجية عالية جدًا. وأي اتحاد مع روسيا من شأنه أن يغني روسيا من ناحية، وأن يشكل من ناحية ثانية خطوة عملاقة على طريق تمكين روسيا من استعادة دائرتها الإمبراطورية».
كما كان قد سبقه إلى ذات الفكرة جورج فريدمان في كتابه “الأعوام المائة القادمة”، حيث قال: «لا بد لروسيا من السيطرة على كل من بيلاروسيا وأوكرانيا وذلك من أجل ضمان أمنها القومي». -وهي من الاستشرافات القليلة التي أصاب فيها المؤلف؛ فالكتاب مبني على مجازفات كبيرة.. على “توقع المستحيل”؛ كما يقول المؤلف نفسه-.
في الحقيقة، هنالك فكرة قالها جيمس بيلينغتون، الأستاذ الجامعي والخبير في الشأن الروسي، الأمين السابق لمكتبة الكونغرس، وتابعه عليها الكثير من الباحثين في الجيوبولتيك والدراسات الأمنية وهي: «أن انعدام الأمن هو العاطفة الوطنية الروسية الجوهرية».
لكن، هل هذا الشعور خاص بروسيا أم أنه عام؟؛ في كتابه “تحليل العلاقات الدولية” يقول كارل دويتش: «شعور الدولة بعدم الأمن يزداد كلما ازدادت قوتها». ومن قرأ وثائق الأمن القومي التي تصدرها الإدارات الأمريكية يُخيل إليه أن الولايات المتحدة دولة يوشك أن يتخطفها الأعداء من كل جهة، ويعلم صحة ما قاله كارل دويتش..
في كتابه “انتقام الجغرافيا” قال روبرت كابلان: «بالنسبة للروس… فإن الجغرافيا تعني ببساطة أنه من دون التوسع هناك خطر التعرض للغزو؛ فالأرض الكافية غير كافية أبدا».
مرةً أخرى، هذا الأمر ليس إلا تعبيرًا مبطنًا بأسماء (الأمن القومي…) عن إحدى أشهر نظريات الجيوبولتيك، نظرية (الحدود البيولوجية والحدود الشفافة) للجيوسياسي الألماني الشهير فريدريك راتزل.
والحدود البيولوجية بحسب راتزل: تعتبر أن الدولة كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وأن الحدود هي أشبه بجلد الكائن العضوي، والذي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه.
والحدود الشفافة: تعني أن الدول لا تتوقف عند حدودها المادية، إنما تتدخل حيث توجد مصالحها؛ وهذا السلوك تسلكه جميع الدول القوية (أمريكا، روسيا، فرنسا، الصين، تركيا…) بحجة الدفاع عن الأمن القومي.
والبعض يرجع التصعيد المتزايد بين بوتين والغرب لدوافع نفسية وسلوكية..
حمد بن جاسم، رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الأسبق، قال في برنامج “الصندوق الأسود” إن: «بوتين يحس أن روسيا أُهينت من قبل أمريكا في مناسبات كثيرة في السابق، ولن يسمح بذلك يستمر». وهذا القول يشاركه به الكثير من الخبراء الألمان في الشأن الروسي، ممن كانت لديهم نزعة “أوستبولتيك” -بالمناسبة كل هؤلاء الألمان لديهم الآن موقف واضح مع بلدهم ضد روسيا-.
غطرسة القوة: نظرية ومؤلف يحمل نفس الاسم للسناتور الأمريكي وليام فولبرايت؛ من وجهة نظره فإن الذي يعجل بالحروب هي أمور لا تستند إلى طموحات اقتصادية أو عوامل تاريخية أو توازن قوى، بقدر كونها محصلة لدوافع معينة تمتزج فيها الآمال والمخاوف العادية للعقل البشري، لتشكل في مجملها حالة أطلق عليها “غطرسة القوة”.
فالذي يبدو أن الدوافع الكامنة وراء الغزو الروسي لأوكرانيا هي مزيج من الأفكار السابقة، بالإضافة إلى أن بوتين حاول استغلال ما استجد على الساحة الدولية من أحداث: التنافس المتزايد بين أمريكا والصين، وما كان ظاهرًا من انقسام للغرب قُبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، والهزيمة الأمريكية في أفغانستان…
* فهل كانت حسابات بوتين صحيحة؟
نهايات الأمور حتى الآن غير واضحة، الخسائر التي مُنيت بها روسيا حتى الآن كبيرة. لكن، إن سيطرت روسيا على أجزاء كبيرة من أوكرانيا فإن هذا سيكون مكسبًا بشريًا واقتصاديًا وجيوسياسيًا كبيرًا..
الذي يبدو، أن روسيا تورطت، ولا خيار لديها حاليًا سوى الاستمرار بالحرب، وفي ذات الوقت ترسل إشارات عن إمكانية الوصول إلى تفاهم يحفظ لبوتين ماء وجهه؛ ربما تلعب الهند أو إسرائيل فيه دور الوسيط.
الأنفع لنا كمسلمين هو أن يطول أمد الحرب، وأن يعظم استنزاف الطرفين لبعضهما (الروس والغرب وليس فقط أوكرانيا)، وأن يهيئ الله لنا قادةً يستغلون هذا الظرف التاريخي.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٤ شعبان ١٤٤٣ هـ