الأستاذ: غياث الحلبي
ساعتان ويحين بعدها موعد الإفطار، لم يكن هذا ما يشغل بالي بالتأكيد فأنا لست جائعا جدا، والعطش الذي يداعب حلقي خفيف، مع أننا في فصل الصيف، ولكنني اعتدت أن أقلل نشاطي في النهار وأعمل ليلا لأحقق بذلك فائدتين؛ الأولى قد مر ذكرها، الثانية استغلال الليل بما يفيد، بدل أن تمضيه وأنت تكيل لنفسك اللطمات والصفعات بحثا عن ذلك المخلوق الشرير الذي يسمى البعوض، وفي النهاية تشعر نفسك كرافضي أحمق يضرب نفسه في عاشوراء، فلا هو قتل قتلة الحسين الذين ماتوا منذ أربعة عشر قرنا، ولا هو أراح نفسه من عناء الضرب، وكذلك أنت هنا لا تقتل البعوضة التي تلسعك ولا تكف عن لطم جسدك.
وبالمناسبة فالبعوض شره جدا للدماء لا يكف عن امتصاصها ولا يشبع منها حتى تظن أنه ليس سوى جندي نصيري في جيش الأبله بشار.
ما كان يشغل بالي فعلا هو كيف سأذهب من قريتنا هذه إلى مدينة حلب، دون أن يشعر أبي أني ذاهب لأشارك بالمظاهرة بعد صلاة التراويح، وليس ذلك حبا في النظام فهو من أشد الناس بغضا له، وقد اعتدت أن أسمعه دائما وهو يشاهد الأخبار يقول: “يلعن شرفهم”، عندما يأتي ذكر الرئيس وأركان حكمه والحديث عن الممانعة والمقاومة.
السبب إذن كان خوفه عليَّ من بطش النظام وإجرامه، وكثيرا ما قال لي: “لا نريد مشاكل، هؤلاء أولاد حرام لا يخافون الله”.
ثم يلقي علي محاضرة طويلة قد تستغرق نصف ساعة وهو يحدثني عن مجزرة حماة عام 1982 ومن قتل فيها من أقربائنا وأصدقائه، وعن ثلث المدينة الذي صار أثرا بعد عين، ثم يختم المحاضرة بقوله: “امش الحيط الحيط، وقل: يا ربي سترك”.
والحقيقة أن محاضرته كانت تزيد من عزمي على المشاركة في المظاهرات والهتاف ضد هذا النظام المجرم الذي فعل كل الجرائم التي قد تخطر على بالك والتي لا تخطر أيضا.
نريد إسقاط هذا النظام، ربما نحن الشباب نتصف بالطيش ونحتاج إلى شيء من حكمة الشيوخ، لكن بالطبع ليست تلك التي تطلب منا المزيد من الخنوع والذل والمزيد من السكوت على الظلم ربما لثلاثة قرون ضوئية.
على أي حال زعمت لأبي أني سأذهب لأسهر عند بعض أصدقائي، ثم يممت وجهي شطر مدينة حلب بعد أن تناولت الإفطار مسرعا، صليت التراويح في المسجد الذي قررنا أن تخرج منه المظاهرة، وبعد الركعة الثامنة خرجت من المسجد ورأيت عشرات الشباب يخرجون أيضا؛ بعضهم زملاء لي في الجامعة، ولكن في هذا الظرف من الخير أن تظهر نفسك كأنك لم تر أحدا ولم يرك أحد حتى لا تحدث كارثة إن قبض الأمن على أحد منا.
قدرت عدد المجتمعين بمائتين، وسرعان ما صرخ أحدهم “إي يا الله ما بنركع إلا لـ الله” ورددت الحناجر ذلك النداء خلفه، ثم نداء آخر “الشعب يريد إسقاط النظام” ثم آخر “يا درعا حنا معاكي للموت” ثم -وكانت طرابلس الليبية قد سقطت في أيدي الثوار- “القذافي طار طار أجا دورك يا بشار” استمرت المظاهرة قرابة عشر دقائق قبل أن تأتي قطعان الشبيحة وكلاب الأمن متسلحة بالهراوات وعصي الكهرباء والسكاكين الطويلة “الجنتيانات” وتبدأ المطاردة الرهيبة، فلا أحد يرغب أن يقع في أيدي هذه الذئاب البشرية الحاقدة.
كانت أعداد الشبيحة كثيرة جدا، وقد قطعوا الطرق لإيقاع أكبر عدد ممكن من المتظاهرين بين براثنهم، ولذلك رأيت أن الخروج من هذه المنطقة ضرب من الحماقة، والبقاء فيها ضرب من الجنون؛ لذا قررت الاختباء في أحد البيوت ريثما تنجلي هذه الغمة.
طرقت بابا وأنا ألهث من شدة الركض، ففتح رجل طاعن في السن، فقلت له: هل يمكن أن أختبأ عندك يا عم، فالشبيحة تلاحقني، نظر إلي باحتقار شديد، ثم قال: تريدون أن تخربوا البلد، انقلع، ثم صفق الباب بقوة في وجهي، فأحسست أن صوت الباب يقول لي أيضا: انقلع، انقلعت على أي حال، ومع أني كنت مستاء من تصرف العجوز الأرعن إلا أني سررت لأنه لم يش بي إلى الشبيحة ولم يسلمني إليهم.
أخذت بعيني بحثا عن بيت جديد يضمني بين جوانحه ويخفيني عن أعين الشبيحة، فالوقت قد ضاق وخطا الشبيحة تقترب مني، وهي تمشط المكان بحثا عن المتظاهرين.
لمحت بيتا بدا عليه التهالك والقدم، فقصدته مستعينا بالله متضرعا إليه أن يغيثني، طرقت الباب طرقات متلاحقة متتابعة، فلئن أبصرني الشبيحة فستكون النهاية غير السعيدة طبعا.
تابعت طرق الباب بسرعة، فسمعت صوت امرأة عجوز تقول: “إي إي جاية جاية”، ولما فتحت الباب لم يكن هناك وقت للشرح، لذلك بادرتها بالقول: “أبوس إيدك يا خالة خبيني عندك الشبيحة بدهم يقتلوني” وسمعتها وهي تقول: “خسؤوا لا أحد يمد يده على شعرة من رأسك وأنا حية، ادخل يا عين أمك ادخل” ولجت الباب مسرعا وقلبي يخفق كالعصفور ولم يكن عندي وقت لأفكر بكلام العجوز التي بدا كلامها كزعيم قبيلة يرفض أن يلحق الضيم بمن دخل بجواره، ولو فنيت قبيلته عن بكرة أبيها.
المهم أنها سمحت لي بالدخول، ولم تصرخ في وجهي بكلمة “انقلع”، الحقيقة أني كنت أفكر بما يمكن أن أفعله لو طرق الشبيحة الباب ودخلوا ليفتشوا، فماذا عساني أن أفعل حينها.
التفتت إلي العجوز قائلة: جوعان يا عين أمك؟
– لا يا خالة، سلمك الله.
– عطشان يا عين أمك؟
– لا يا خالة، سلمك الله.
– أنت خوفان؟ عيب لا تخاف أنت في داري وأنت في أمان إن شاء الله.
– وماذا لو طرقوا الباب الآن وأرادوا التفتيش؟
– لا تشغل بالك سأدبر الأمر.
– ثم أشارت إلى خزانة كبيرة في صدر البيت قد سترت الحائط من أوله إلى آخره، وقالت: أزحها، فأزحتها لأجد في منتصف الحائط تجويفا كهيئة المحراب لا يتجاوز ارتفاعه المتر والنصف، فقالت: اجلس هنا ولن يشعر بك أحد.
جلست في هذا التجويف وأعادت العجوز الخزانة إلى هيئتها الأولى، حتى لا يمكن لأحد أن يظن أن خلف الخزانة شيئا، وأخذت أسمع أصوات أوان زجاجية تضعها العجوز قرب الخزانة ولم أعرف لماذا.
لم يطل الانتظار طويلا فقد سمعت الصوت البغيض، صوت طرق الباب، مصحوبا بضوضاء الشبيحة، أخذت أكرر قول الله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)، وأقرأ فواتح يس.
فتحت العجوز الباب، فقال لها الضابط: يا حاجة نريد تفتيش البيت، نحن نبحث عن إرهابيين.
– وهابيين، من هؤلاء؟
– لا لا ، إرهابيين إرهابيين.
– ماذا يهربون
– شعر الضابط أنه وقع في ورطة كيف يمكن لهذا الشيء أن يفهم، ولم يكن النظام في تلك المرحلة من المظاهرات بحلب يريد أن يستثير الناس كلهم، لذلك كانت المعاملة الإجرامية تختص بالمتظاهرين والمعارضين، أما عامة الشعب فقد كان النظام يحاول خداعهم بأنه يلاحق الإرهابيين والمندسين والمخربين.
وأخيرا سمحت العجوز للضابط بالدخول مع شبيحته، تقدم عنصران إلى الغرفة التي أنا فيها، وسرعان ما صاحت بهم العجوز: أهكذا تتصرفان في بيوتكم؟ انظروا كيف ملأتم الأرض أوساخا، انزعا الأحذية.
وهمَّ أحد العنصرين أن يوجه لكمة للعجوز يسقط لها أسنانها الصناعية، إذ إن أسنانها الطبيعية قد تكفلت السنون بإسقاطها، إلا أن الضابط أشار إليه بعينه، ففهم المراد، واضطر العنصران إلى نزع أحذيتهما، ثم دخلا الغرفة.
وبينما هما يفتشان اصطدمت يد أحدهما بإناء زجاجي كانت العجوز تعمدت أن تضعه قريبا من حافة الطاولة ليسقط عند أدنى حركة، فسقط الإناء وانكسر، وهنا صرخت العجوز مجددا: “كسر الله إيديكم، هذا ذكرى من المرحوم”، ثم افتتحت حفل نياحة تذكر فيه المرحوم ومآثره وذكرياتها معه.
وشعر الضابط بالارتباك الشديد وخشي من تجمع الناس على صوت العجوز، فأعطى أمرا بالانسحاب دون أن يكتمل التفتيش.
وسمعتُ العجوز وهي تقول للعنصر الذي كسر الإناء عند الباب: “انقلع”، ثم صفقت الباب خلفه بقوة فأصدر صوتا قويا كأنه يقول له “انقلع”.
وكان هذا الصوت أجمل صوت سمعته في حياتي.
انتهت.
لتحميل نسختك من العدد 30 من مجلة بلاغ اضغط هنا
لقراءة باقي المقالات اضغط هنا