الأستاذ: أبو يحيى الشامي
“السلطة الرابعة” الصحافة سابقاً وكل وسائل الإعلام لاحقاً، يتفق كثيرون أن المؤرخ الاسكتلندي “توماس كارليل” له الدورُ الأكبر في إشهار المصطلح وذلك من خلال كتابه “الأبطال وعبادة البطل” (1841)، وقد اقتبسه من كتابات المفكر الإيرلندي “إدموند بيرك”.
السلطة التشريعية وهي في الإسلام مصونةٌ من عبث البشر، والسلطة القضائية تحكم بين الناس باجتهادها المنضبطِ بما قررته الأولى، والسلطة التنفيذية التي تعمل بمقتضى السياسة الشرعية، والرأي العامّ الذي يحركه تسليط الضوء ونشر الوعي، وهنا تعمل السلطة الرابعة عملَها في الإصلاح أو في الإفساد، فالسلطات التي يديرها البشر ليست منزَّهةً.
تتناسب قوة السلطة الرابعةِ مع مدى وعي واجتماع كلمة العاملين بها، ومدى استعدادهم المبدئي والتزامهم العملي بنصرة القضايا العامة الهامة، ومدى وعي واجتماع كلمة الجمهور وسرعة تأثرهم بخطاب هذه السلطة، هذا بالتأكيد يُبنى على جهدٍ تراكميٍّ من الثِّقة والمصداقيَّةِ والموضوعيَّةِ.
هذه السلطة في بعض الدول عصاً في يد السلطة التنفيذية الطاغية، تنهال بها على مخالفيها وتطبل بها لنفسها، وفي بعض الدول عصاً عليها لا لها، تؤثر في الكثير من قراراتها، كرقيبٍ مهابِ الجانب.
ظهرت قوة هذه السلطة بأجلى صورها في صدر الدولة الإسلامية، ومتفرقاتٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ بعد انتهاء الفترة الأموية، حيث تمتع المسلمون بحق وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبداء الرأي في الشأن العام، عن طريق الشخصيات البارزة في العلم أو الخطابة أو الشعر، ليس نقلاً للخبر فقط، بل تعليقاً عليه وأمراً ونهياً، والناس يتناقلون ذلك ليبلغ بعيد المكان وبعيد الزمان.
ومما يمكن أن يقوم به الإعلام الحرُّ وهو جزء من واجبه، أمرٌ هامٌّ جداً حاضرٌ في ضمير ووجدان أهل العدل والإنصاف، وفي كتابات بعض الكتاب، ومعلوم عند من يهمله ويقصر فيه عمداً أو خطأً، إنه واجب نصرة المظلومين بنقل أخبارهم وأصواتهم، فلربما ظلموا من السلطات كلِّها ولم يبق إلا أن يعرضوا مظلمتهم للرأي العام، مع ما يلهجون به من دعاء، فيجب عندها أن يقوم العاملون في هذا المجال بواجبهم.
ما تقدَّم كان مقدمةً لما سأبثُّهُ فيما يلي، وهو أمرٌ يترفع عنه الأحرار أصحاب المبادئ والأخلاق، إن كانوا من عامة الناس أو خاصتهم، وإن كانوا من الظاهرين إعلامياً أو المغمورين، وهو النصرة الانتقائية، وتسليط الضوء بتخيُّرٍ وتحيُّزٍ، وهذا ليس من العدل ولا الموضوعية ولا المهنية في شيء، وهو في الحقيقة عارٌ يعشش في أنفس فاعليه وإن لم يظهر على وجوههم، ولا بد أن يظهر.
إن الفطرة التي فطر الله الناس عليها تأبى الظلم وتدعو المرء إلى نصرة المظلوم كائناً من كان، على الأقل من باب التكافل والخوف من أن يصل الظلم إلى الذات، وبهذا ترى من له دينٌ باطلٌ ومن لا دين له يتناصرون وينصرون، ويقيمون ما يرونه عدلا بينهم وربما يعم غيرهم، والروم ممدوحون في هذا، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “إن فيهم خصالاً أربعاً، إنهم لأحلم الناس عند فتنةٍ، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبةٍ، وأوشكهم كرَّةً بعد فرَّةٍ، وأرحمهم لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ، وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ وأمنعهم من ظلمِ الملوكِ”. (رواه مسلم).
ولقد جاء الإسلام ليثبت هذا المعنى والواجب الفطري العظيم، والنصوص العامة والخاصة الدالة على ذلك كثيرةٌ، أشملها وأجملها: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2]، وفي ذم الظلم وذم عدم النهي عنه، قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 – 79]، وفي السُّنة الكثير، ومن عامِّ النصوص ما روى أبو بكر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه“. (صححه الألباني في صحيح أبي داود)، هذا يشمل الظلم الذي يقع على المسلم وغير المسلم، واذكروا مدح النبي صلى الله عليه وسلم لحلف الفضول، ونصرته لخزاعة على كفرهم، ونصرة ذا القرنين للقوم المظلومين من قبل يأجوج ومأجوج، وشهادات الحق من السلف في المسلمين وغيرهم.
وفي نصرة المسلم خاصةً، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربة فرَّج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة” (رواه البخاري)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً“، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: “تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره“. (رواه البخاري)… وغيرها من النصوص كثير.
فلا فرق في نصرة المظلوم بين المسلم وغير المسلم، وهذا الفرق بين المسلمين منعدمٌ تماماً (في الأصل)، فلا يصح بحال أن يتخيَّر من له منبرٌ مشهودٌ أو صوتٌ مسموعٌ أو رأيٌ مطاعٌ النصرةَ لمظلومٍ ويتجاهل مظلومين، ولا يجوز أن يساهم الإعلام “الحر!” في كتم أصوات المظلومين بالتغاضي عنهم وعدم نقل أخبارهم أو تقصِّيها في حال غموضها، فالإعلامي المسلم المأمور ديناً أولى بهذا من الإعلامي الكافر أو الملحد الذي يفعله مروءةً أو حبا للظهور والشهرة، أي يفعله لبقية أخلاقٍ أو لدنيا يصيبها، وهم كثرٌ مشهودٌ لهم ساهموا في إقامة كثيرٍ من العدل الوضعي في بلدانهم وشيء قليل من العدل الدولي.
نرى بعجبٍ كيف يقوم بعض الإعلاميين والناشطين وأصحاب القنوات والحسابات الإلكترونية بالنصرة على المعرفة وربما الصحبة والقرابة، ويمتنعون إن كان المظلوم من كذا وكذا فصيلٍ أو حزبٍ أو جماعةٍ أو كان مسلماً لا انتساب له إلا إلى الأمة، وبعضهم يصمت عن كل مظلمةٍ صمت أهل القبور، ضاربين بذلك واجبات المهنة وشرفها عرض الحائط، ومرتكبين لجريمة الخذلان التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “ما من امرئ يخذل امرءًا مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطنٍ يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته“. (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
إنها شهادة حقٍّ مأمورٌ أن يؤديها، فعلامَ يجعلها فيما يحب ويكره وفيما يخاف ويطمع، وليس في رضا من أمر بها جلَّ شأنه؟!، فإن لم يكن لله، وليس نصرةً لعباده المسلمين من باب الأخوة في الدين، فليكن للمروءة وشرف المهنة، ومن باب الفطرة والإنسانية، وإن هذا لا يجوز أن يؤثر فيه حبٌّ ولا بغضٌ لتكون شهادة زورٍ أو صمت أهل القبور.
إن أمر الله الذي يعم عباده: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، و {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وإن هذا الأمر في أهل الاختصاص ألزم وأوجب، وإن الإعلام يعني الشهادة، فلتكن شهادة حقٍّ وعدلٍ، وإلا فليتخفف العاجز من مسؤوليةٍ لا يقدر عليها، وأمانةٍ لا يستطيع حملها.
وفي الشام، أرض الكفالة والصلاح، كمثالٍ هامٍّ يحتذى، قصَّر كثيرٌ من أهل هذا الاختصاص في نصرة المظلومين، أو حصروا النصرة في هواهم، فنصروا مظلوماً وخذلوا آخرين، وبعضهم تخيَّرَ من الظالمين فمنعه خوفٌ أو طمعٌ من الشهادة على بعض الظالمين ونقل أخبارهم.
لقد تكرر إنشاء هيئاتٍ وتشكيلاتٍ إعلاميةٍ لم يظهر نفعها، آخرها رابطة الإعلاميين السوريين، وتعاهد وتواثق الإعلاميون فيها على قول الحق وإيصال الخبر باستقلاليةٍ وحيادٍ وتناصرٍ، ثم حدث من الأحداثِ ووقع من الظلم على أهل الشام وعلى بعض الإعلاميين أنفسهم ما تناقله ناشطون صادعون بالحق، ولم يرفع له وبه بعض الإعلاميين رأساً ناهيك عن هيئاتهم وتشكيلاتهم.
لله در الإعلامي المجاهد المهاجر بلال عبدالكريم، ومن هم مثله، فلقد رأيته لا يفرق بين مظلومٍ ومظلومٍ، ولا بين ظالمٍ وظالمٍ، ينقل الخبر ويتحرى حقيقته، ويتابعه مع كل أطرافه بمهنيةٍ ومسؤوليةٍ قلما رأيت مثلها في ثورةٍ ولا ساحة من ساحات الجهاد، فعلامَ لا يحذو من تشبع بهذه الصفة حذوه؟!، أم أنه يخشى أن يحمل ما حُمِّلَ، فليحملوه معاً إذاً وليتداعوا إلى قول الحق والنصرة.
إن الثورة السورية وجهاد أهل الشام إنما قام على الظلم وسلب الحقوق والحريات، وفي هذا لا فرق بين ظالم العرب وظالم العجم، ولا فرق بين الظالم الكافر والظالم المسلم، إلا أن الظالم المسلم يسيء إلى دينه وإلى الشريعة التي يدعي تطبيقها، وهو أولى بالحجز عن الظلم، فإن لم يكن باليد فباللسان، وإلا فكيف يكون الإصلاح؟!، وكيف تكون نصرة المظلوم.
والعجبُ العجابُ ممن ينقل أخبار العالم ويتغنى بالجهاد، ويكتم خبر جاره المسلم القريب الذي يئن من مظلمةٍ أو مظالمٍ، في فهمٍ سقيمٍ مغلوطٍ للإسلام عامةً وللجهاد خاصةً، أو تنَكُّبٍ مُتعمَّدٍ له، فالجهاد لا يكون عبثاً، إنما لجني ثمرةٍ طيبةٍ، وبئس ثمرةُ الجهادِ الظلمُ، وبئس من وضع نفسه موضع الشهادة فمالَ بها وحافَ وطفَّفَ، إنه مائلُ الشِّقِّ أسودُ الوجهِ في الدنيا والآخرة، والعياذُ باللهِ.