الأستاذ: حسين أبو عمر
المعلم الأول؛ لقب جرت عادة الفلاسفة أن يطلقوه على أرسطو طاليس لما قدمه من إسهامات في شتى مجالات العلم، وفي الفلسفة بشكل خاص.
لن يدور الكلام في هذا المقال حول أرسطو ولا حول الفلسفة؛ وإنما سيدور الحديث في هذا المقال حول النموذج الأول للحكم الجاهلي، والذي مازال أصحاب السلطة وطلابها يتبعون أسلوبه حذو القذة بالقذة إلى يومنا هذا..
حقيقةً؛ كنت أتعجب من كثرة ذكر قصة فرعون في القرآن الكريم؛ لماذا كل هذا التكرار وكل هذا التفصيل؟! ولماذا ذُكرت قصته أكثر من قصص الأقوام الآخرين؟! فلقد ادعى غيره الربوبية كما ادعى هو، وسعى في تعبيد الناس لنفسه كما سعى هو، كما أنه لم يكن الوحيد الذي قتَّل الأطفال، بل لقد فعل غيرُه مثل فعله وأكثر؛ كما حصل لأصحاب الأخدود، ولقد استكبر غيره على الإيمان برسلهم وبالآيات المعجزات التي جاءتهم بها، كما فعل هو مع الآيات التي جاء بها موسى -عليه السلام، كما أنهم جميعهم كانت نهايتهم الهلاك..؛ فما الذي يُميزه عنهم؟!
حتى تبين لي أن ما يميز قصة فرعون عن غيرها من قصص القرآن هو أن فرعون قدم نموذجاً متكامل الأركان لطريقة الحكم الجاهلية، ومارس معظم أساليب المكر والخداع للحفاظ على السلطة، التي أصبحت فيما بعد قواعد بل ودستوراً لمن أتى من بعده من طلاب السلطة الحريصين عليها؛ فهو إمامهم الأول، الذي سنَّ لهم سننها، وخطَّ لهم خطوطها؛ وبذلك استحق هذا التفصيل في فضح طريقته وتبصير الناس بها؛ ذلك أنهم سيواجهون خلال حياتهم نماذج كثيرة جداً تتبع طريقة فرعون في الحكم.
وإن كان نيقولا ميكافيللي يُعتبر أول من جمع هذه القواعد لاستعمال المكر والخداع للوصول إلى السلطة، وكيفية السيطرة على الشعوب، واستعمال كل أساليب المكر والغدر من أجل المحافظة على الحكم، كما في كتابه «الأمير» إلا أن فرعون كان قد نموذجاً عملياً لاستعمالها قبل ميكافيللي بآلاف السنين.
لقد ذكر رفاعي سرور -رحمه الله- في كتابه «التصور السياسي للحركة الإسلامية» كيف أن فرعون استعمل الخداع من أجل تحقيق عصبية العامة، ومن ثم تثبيت ملكه، حيث قال: “إن تحقيق عصبية العامة للحكم الجاهلي مهمة صعبة، ولكن الجاهلية تمارسها بكل دقة، ونموذج تلك الممارسة… هو الممارسة الفرعونية، وعناصر تلك الممارسة هي أن يشعر العامة أنهم أصحاب السلطة (شركاء في القرار) وهذه فكرة فرعون عندما قال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]
ويبلغ إحساس العامة بالسلطة الكاملة عندما يقول لهم فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ}! إن فرعون يقول للعامة: {ذَرُونِي} ودون أن يستطيع أحد أن يمنعه، يطلب فرعون من العامة أن يتركوه، يطلب التفويض الشعبي في اتخاذ القرار المناسب تجاه موسى وأن يشعر العامة أنهم أصحاب المصلحة {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110].
أن يشعر العامة أنهم أصحاب السياسة {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ} [طه: 63]
أن يشعر العامة أنهم أصحاب القضية والمبدأ {إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26]
أن يشعر العامة أنهم حماة الواقع وأصحاب الإصلاح..
إن أهم عناصر العصبية هي إنشاء الخوف على النظام الحاكم في نفوس الناس ولذلك يعبر الناس عن الخوف قائلين: ﴿وَقَالَ ٱلْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ} [الأعراف: 127]
وحينئذ تكون طمأنة الناس هو واجب النظام قال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاٰهِرُونَ} [الأعراف: 127]
ومن أهم عناصر العصبية أن يشعروا بأنهم محور النظام؛ ومن هنا كان الضمير دائماً يعود على الناس: (أرضكم – طريقتكم – دينكم…).”ا هـ
حقيقةً؛ لم تقتصر طريقة فرعون السياسية على وسائل تحقيق عصبية العامة، وإنما استعمل فرعون كل الأساليب التي باتت منتشرة اليوم بين أصحاب السلطة الحريصين عليها:
ففرعون يصنع الملأ الذين يثبتون له ملكه، ويقرب كل من يفعل ذلك، ويدفع لهم الأجور على ذلك، كما يفعل أصحاب السلطة في زماننا من مجالس شورى صورية، وما يدفعونه على الإعلام من أجل تلميع صورتهم: {قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَٰلِبِينَ * قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41-42].
وفرعون استعمل حيلة «فرق تسد» التي باتت قاعدة لكل الحريصين على السيادة الساعين للمحافظة عليها، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] قال ابن جرير الطبري في تفسيرها: “وقوله: “يعني بالشيع: الفِرَق، يقول: وجعل أهلَها فرقًا متفرّقين”.
واستعمل فرعون وسيلة التقليل من عدد وشأن الخارجين عليه، وإظهارهم على أنهم قلة منبوذة، كما يعمل أصحاب السلطة في زماننا مع كل دعوة لا توافق هواهم، قال: {إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54].
واتهمهم بالفساد والإفساد، كما يتعامل أصحاب السلطة في زماننا مع دعاوى الإصلاح، قال: {إِنِّىٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلْأَرْضِ ٱلْفَسَادَ} [غافر: 26].
وفرعون لا يُظهر خوفه على ملكه، وحرصه عليه، بل يخفيه عن العامة، ويغلف ذلك بمظهر الخائف على دين العامة وعلى طريقة العامة وعلى مصالح العامة، كما يفعل من يخشون على سلطتهم في زماننا، قال: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26].
وفرعون يفتح الملفات القديمة، لعله يجد خطأً قديماً لأحد أصحاب الدعوى من أجل أسقاطه، ومن ثم إسقاط دعواه، كما يفعل المتشبثون بالسلطة في زماننا، قال: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء: 19].
وفرعون يتهم أصحاب دعاوى الإصلاح بالمكر والتخطيط ضد النظام وضد مصالح العامة، كما يفعل الحريصون على السلطة في زماننا، الذين يقابلون كل دعوة إصلاح تواجههم باستجلاب نظرية المؤامرة، قال: {إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} [الأعراف: 123].
وبعد كل هذا التشويه، وتهيئة العامة لتقبل ما يريد فعله بالمصلحين، وإظهار نفسه بمظهر المنقذ للعامة الحريص على مصالحهم، يأتي وعيده للمصلحين بالقتل والقهر والسجن؛ كما يفعل كل الطواغيت في زماننا؛ فهم مستعدون لارتكاب كل الموبقات من أجل بقائهم في مناصبهم.
لقد كان فرعون حقًّا معلمهم الأول!